وصية الدكتور المسيرى
أمامى آخر ما كتبه المفكر الراحل الدكتور عبدالوهاب المسيرى وكأن السطور وصية كتبها فى آخر أيامه وهو يعانى من آلام المرحلة الأخيرة من المرض الخبيث الذى كان يفتك به، وكان هو يقاومه ببسالة وقوة إرادة، وحب للحياة، ورغبة فى العطاء حتى النفس الأخير..
..وعبد الوهاب المسيرى بلدياتى- من دمنهور- وزميل الدراسة فى مدرسة دمنهور الثانوية ثم فى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، كان هو فى قسم اللغة الإنجليزية وأنا فى قسم الفلسفة والاجتماع ونلتقى كل يوم لأن أعداد الطلبة فى هذه الكلية- فى الخمسينيات- كانت محدودة، ثم ذهب كل منا فى طريق بعد التخرج، حيث سافر إلى الولايات المتحدة للحصول على الدكتوراه فى الأدب وتزوج زميلته الدكتورة هدى، وتفرغ بعدها لأبحاثه وكتبه وجهوده العلمية أستاذا فى كلية البنات، ثم ترك الكلية وتفرغ للكتابة والنشاط الاجتماعى، ثم تحول إلى قائد فكرى وسياسى ورأس حركة «كفاية» وتحمل الإهانة والضرب والاعتقال وهو مريض، ويعانى من الشيخوخة، لكنه كان شابا بروحه وعزيمته، ثم أصبحنا نلتقى وأنا رئيس مؤسسة دار المعارف بعد أن استطعت أن أجذبه لنشر عدد من كتبه فى دار المعارف كانت من الأكثر مبيعا.
وفى أيامه الأخيرة كتب ما أسماه «برنامجى الانتخابى للرئاسة» بعد أن طلبت منه إحدى المجلات أن يضع برنامجه الانتخابى لو أنه انتخب رئيسا للجمهورية، فكتب هذا البرنامج وبدأه بالتأكيد على أنه لا يفكر فى ترشيح نفسه، لأنه قرر أن يذهب إلى فنزويلا ويقضى فيها خمس سنوات يدرس كيفية التصدى للولايات المتحدة، لأن فنزويلا دولة صغيرة وتقع على بعد أميال من الوحش الأمريكى الكاسر، ومع ذلك لها أولوياتها وتوجهاتها التى لا يوافق عليها هذا الوحش الأمريكى، بينما ترتعد فرائص النخبة العربية الحاكمة منه، أما برنامجه الانتخابى فيبدأ بمقدمة يقول فيها إن الدولة الديمقراطية الحقيقية لابد أن تكون دولة مؤسسات، وأن يكون لرئيس الدولة مؤسسات استشارية تحلل له الأحداث وتقدم إليه تقديراتها للمواقف ورؤيتها للمستقبل، لأن الدولة الحديثة مركبة ولا يمكن لفرد (مع الشلة المحيطة به) أن يتخذ قرارا سليما بدون مساعدة الخبراء والمتخصصين، ولذلك يجب أن تكون صلاحيات الرئيس محدودة تقيدها المؤسسات والمجالس النيابية المنتخبة، وتتوافر فيها سيادة القانون، وإلغاء القوانين الاستثنائية والسالبة للحريات، وتعلن فيها حرية الاجتماع دون قيود، وحرية التظاهر السلمى الذى لا يعتدى على القانون ولا يستخدم العنف بأية صورة، ويقدم كبار الموظفين بيانا تفصيليا بذمتهم المالية عن دخولهم الحكم أو توليهم المنصب أو انتخابهم ثم عند خروجهم، وينطبق ذلك أولا على رئيس الجمهورية ويكون هذا البيان معلنا وليس سريا ويلتزم الرئيس بأن يكون القرار لا مركزيا ومرتبطا بالجماهير ومشكلاتها، وبإعطاء سلطات حقيقية أكبر للمحافظين، ويضع النظام الذى يكفل إطلاق حرية تكوين الجمعيات والنقابات وأن يكون تمويلها من الداخل لتكون «أهلية» بالفعل، ويبدأ بإعادة نظام «الوقف» الذى تم إلغاؤه فى أوائل الخمسينات للمساعدة على حل مشكلة التمويل.
وفى برنامج المفكر الراحل عبدالوهاب المسيرى أن يحرص الرئيس على أن يكون التوجه العام لمصر أن تستعيد مكانتها التى فقدتها وأن تحقق استقلالها واكتفاءها الذاتى وتتوجه شرقا وجنوبا ابتداء بالعالم العربى ثم العالم الإسلامى وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، مع توثيق العلاقة مع بعض الدول الأوروبية خاصة فرنسا وألمانيا وأسبانيا، وفى عصر التكتلات الاقتصادية الكبرى يصبح الوصول إلى شكل من أشكال الوحدة العربية أمرا حتميا، وبالنسبة لعلاقة الدين بالدولة فإن القاعدة الأخلاقية المشتركة بين الإسلام والمسيحية هى الإطار لإنشاء عقد اجتماعى جديد، فيكون الإسلام هو الإطار الحضارى للمسلمين والمسيحيين، ويستوعب المسيحيين على قدم المساواة مع المسلمين، وقد عاشوا معا لقرون طويلة وربطوا مصيرهم بمصير هذه الأمة، أما التوجه العام فى الداخل فهو «العدالة الاجتماعية» بمعالجة الفجوة الهائلة بين قلة من الأغنياء والأغلبية الساحقة من الشعب، وضمان حد أدنى من الضمان الاجتماعى والرعاية الصحية لكل المواطنين وتأكيد أهمية دور الدولة فى الاقتصاد وحماية القطاع العام مع الاعتراف بأهمية القطاع الخاص وحماية «الرأسمالية الوطنية» مادام ظلت «وطنية» وإصلاح الخلل فى البنية الاقتصادية والاجتماعية لحل مشكلة البطالة، والمعركة التى يجب ألا تتأخر هى محاربة النزعة الاستهلاكية التى تؤثر سلبا على المجتمع المصرى وتكون هذه المعركة داخل إطار قانونى وبتشريعات مثل حظر الإعلانات المضللة وفرض الضرائب الأعلى على السلع الاستهلاكية وحفلات الزواج وأعياد الميلاد وغيرها من صور الاستهلاك السفيه.
أما نزاهة الانتخابات واستقلال القضاء والمؤسسات الإعلامية عن الحكومة بما فى ذلك الصحافة والإذاعة والتليفزيون لكى تقوم بواجبها فى كشف الحقائق دون تحوير أو تلاعب أو تقديم أنصاف الحقائق وتكون مفتوحة لكل الاتجاهات والتيارات فى المجتمع وتبتعد عن إعلام التوجيه والتعبئة، وإعادة البرلمان إلى دوره الحقيقى فى المساءلة والرقابة على الحكومة..
وأخيرا منع تسمية أى مدرسة أو ميدان أو شارع باسم رئيس جمهورية مصرى على قيد الحياة ويمنع نشر إعلانات تأييد لرئيس أو الوزير وإعلانات التهانى والتعزية وتمنع المهرجانات فى عيد ميلاد الرئيس.
لا أعرف لماذا حرص الدكتور المسيرى على أن يرسل هذه الكلمات إلىّ فى أيامه الأخيرة.. ربما لكى أعيد نشرها فى الوقت المناسب.. وها قد فعلت وفاء لصديقى.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف