الهرم الاجتماعي المقلوب

عادت قضية تطوير التعليم إلي دائرة الاهتمام بتصريح للدكتور أحمد زويل أعلن فيه عن الإعداد لمشروع جديد لتطوير التعليم تطويرا كاملا شاملا وفقا للمعايير العالمية لجودة التعليم‏..‏

ومن الطبيعي أن نصدق ذلك ونتفاءل خيرا علي الرغم من أننا عشنا عشرات السنين نسمع ونقرأ ونشاهد مؤتمرات وندوات وتصريحات عن مشروعات تطوير التعليم وفي كل مرة كنا نتفاءل وننتظر فلا نري إلا مزيدا من التدهور في أحوال التعليم حتي اعتدنا أن نجد الحاصل علي الشهادة الابتدائية لا يجيد القراءة والكتابة بعد ست سنوات قضاها في التعليم, ونجد خريج مدرسة الصناعات لا يجيد الصنعة التي يحمل شهادتها, وكذلك خريج مدرسة التجارة لا يصلح لعمل يحتاج إلي معرفة بالحسابات فلا يجد إلا أن يعمل سائق تاكسي, وحتي خريجو الجامعات ليسوا مؤهلين للعمل في تخصصاتهم ولا يتعلمون المهنة إلا بعد التخرج ومن خلال الممارسة, والمشكلة أن سوق العمل في مختلف الدول لم يعد يقبل إلا أفضل المؤهلين للوظائف دون نظر إلي جنسياتهم, فنجد فرنسيين في بنوك بريطانيا, وألمان في إدارة شركات أمريكية, وسويسريين في إدارة فنادق في مصر, ولذلك لا يجد خريج الجامعات المصرية الفرصة إلا إذا كان قد درس في جامعة أجنبية, ولا يصلح معظم الخريجين من الجامعات الحكومية إلا للوظائف العادية التي لا تحتاج إلي مهارات ومواصفات خاصة.

وفي كل مناسبة نتحدث عن ماليزيا التي بدأت تحديث المجتمع بإعداد جيل متعلم تعليما عصريا بالمستوي العالمي, وتوسعت في إيفاد بعثات للتعليم في أوروبا وأمريكا, وهكذا فعل كل بلد أراد الخروج من دائرة التخلف وأخذ بسياسة الاستثمار الاجتماعي. وبالنسبة لمصر فانها تعاني من أزمة اجتماعية كبري مع ارتفاع نسبة البطالة وزيادة معدلات الفقر ليشمل40% من المواطنين وتسببت سياسة الخصخصة وسيطرة الرأسمالية الطفيلية وتراجع دور الدولة وترهل الادارة في جميع المستويات, والآن وبعد الثورة, لم يعد ممكنا استمرار الوضع المتأزم الحالي نتيجة التفاوت الكبير في توزيع الثروة وفي نوعية الحياة لسكان العشوائيات وسكان المنتجعات, الآن لابد أن يكون لاقتصاد السوق الوجه الانساني ويعمل علي تحسين أحوال الفقراء, ولابد أن تعود الدولة إلي القيام بمسئوليتها عن الاصلاح الاجتماعي, ويعود القطاع الخاص إلي تحمل مسئوليته الاجتماعية فيسهم في حل مشاكل تعجز الحكومة عن حلها.

ومفهوم الاستثمار الاجتماعي ليس غريبا, فقد ركزت الأمم المتحدة علي دعوة الدول إلي تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية للطبقات المحرومة, وصدرت الاتفاقية العالمية التي تلزم بأن تكون مشروعات القطاع الخاص مساهمة في تحسين الأحوال الاجتماعية وحماية البيئة ومكافحة الفساد, واستجابت لهذه المبادرة ستة آلاف شركة في130 دولة, وفي المؤتمر العلمي الأخير للمركز القومي للبحوث الاجتماعية أثارت الدكتورة ابتسام الجعفراوي هذه القضية ونبهت إلي أن الاستثمار الاجتماعي ليس مقصورا علي القطاع الخاص وحده ولكنه يشمل الدولة بحيث توجه استثماراتها إلي قطاعات تحقق أكبر عائد اجتماعي, وخصوصا في الاستثمار البشري, في التعليم, والصحة, ورعاية الأطفال والشباب, وبذلك يكون الاستثمار للمستقبل وليس فقط تلبية لضرورات الحاضر, ودول العالم الآن تركز علي الاستثمار في اقتصاد المعرفة أي في التعليم وهو السبيل الوحيد لتحقيق التقدم في كل المجالات.. لتطوير الصناعة والتجارة والادارة, وتحسين أوضاع الفقراء, و الترقي والحراك الاجتماعي, ورفع مستوي الحوار الديمقراطي, وبذلك تتحقق العدالة الاجتماعية بمفهومها الصحيح.

المشكلة أن الكلام عن أهمية التعليم أكثر من اللازم, والفعل أقل من اللازم, بل إن الكلام يترجم بخفض نسبة الإنفاق عليه, ففي عام2001 كان الانفاق علي التعليم9,4% من الناتج المحلي الاجمالي, فوصل إلي8,3% في عام2008 ثم إلي4,3% في العام الحالي, وهذا يدل علي أن الكلام شيء والفعل شيء آخر, مع العلم بأن أكثر من90% من ميزانية التعليم تذهب للأجور والمرتبات, أما الاصلاحات والمكتبات والأجهزة والمعامل والأنشطة فلا يحقق نصيبها فائدة تربوية حقيقية. وفي تقرير للأمم المتحدة أن نصيب الطالب في الدول المتوسطة الدخل ـ مثل مصر ـ ثلاثة أمثال نصيبه في مصر(!).

ونتيجة الفشل في إعداد الكفاءات المطلوبة فإن البطالة بين خريجي الجامعات عشرة أمثال نسبة البطالة بين الأميين, ولا يشغل الوظائف المميزة إلا خريجو التعليم الأجنبي وهم أبناء الشرائح القادرة ماليا مما يعني أن أبناء الأغنياء يظفرون بالفرص ومكتوب علي أبناء الطبقات الأخري أن يظلوا في أسفل السلم الاجتماعي.. فكيف تتحقق النهضة مع استمرار وجود الهرم الاجتماعي المقلوب؟


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف