محاكمة الفضائيات

انتشرت الفضائيات بصورة غريبة تدعو للتساؤل‏:‏ لماذا كل هذه القنوات التليفزيونية وفي هذا الوقت بالذات‏..‏ والإجابة لن تكون معبرة عن الحقيقة‏.‏

لأن الحقيقة غاطسة تحت السطح.. ولا يظهر علي السطح إلا القول بأن هذه الفضائيات ظهرت مع الثورة لتكون صوت الجماهير والمعبرة عن النبض الثوري.. وتساعد علي تكوين رأي عام يدفع الثورة بخطوات أوسع نحو تحقيق أهدافها.. وهي أيضا تلقي الضوء علي الأحداث وتقدم تحليلات وآراء مختلفة تدعو المصريين إلي التفكير واتخاذ مواقف ناضجة.

مثل هذا الكلام كثير.. وبعضه صحيح ومقبول, ولكن بعضه الآخر يثير التساؤل عن الأهداف الحقيقية, وليس الأهداف المعلنة.. خاصة أن بعض الفضائيات لها جهات يمكن معرفتها.. أما بعضها الآن فإنها تعمل بحرفية وذكاء وتخفي هدفها وراء ستار من الموضوعية والحياد والمهنية.. والحقيقة التي يعرفها العاملون في الإعلام هي أن كل وسيلة إعلامية لها سياسة وتسعي إلي تحقيق أهداف معينة قد تكون السياسة والأهداف لتحقيق مصالح قومية.. وقد تكون لتحقيق مصالح خاصة لقوي وأطراف في الخارج أو الداخل.. وهذا ما يدعو إلي التساؤل عن تمويل هذه الفضائيات وحجم الإعلانات فيها لا يغطي التكلفة الباهظة الضرورية.. وإذا كان صحيحا ما يقال من أن مصادر تمويل هذه الفضائيات الغريبة من رجال الأعمال وبعض الدول الخارجية.. فإن علينا معرفة الدوافع التي تدعو هؤلاء إلي إنفاق الأموال من أجل التأثير علي الرأي العام.. والتأثير أيضا علي صانع القرار لتحقيق أهداف ومصالح غير ما هو معلن ويشير إلي دوافع مثالية لا يعرفها رجال الأعمال الذين لا يتحركون ولا ينفقون إلا لممارسة نوع من النفوذ يحمي مصالحهم.. وربما يحمي انحرافات بعضهم.. ولعل أوضح مثل لذلك هو مثال برلسكوني في إيطاليا الذي قيل الكثير عن علاقاته مع المافيا وانحرافاته السلوكية واستغلاله لنفوذه لتوسيع امبراطوريته المالية وسيطرته علي سوق المال والأعمال.. بتملكه العديد من الصحف وقنوات التليفزيون.. وهذه السيطرة الإعلانية ساعدته علي النجاح في الانتخابات أكثر من مرة علي الرغم من فشله السياسي وعدم قدرته علي اصلاح الاقتصاد الإيطالي واغراقه البلاد في العجز والديون.

وفي بحث للمركز القومي للبحوث الاجتماعية تبين أن أكثر من40% يشاهدون الفضائيات العربية و11% فقط يشاهدون الفضائيات الأجنبية.. وهذا ما يكشف لنا حقيقة زيادة القنوات الأجنبية التي تقدم برامجها باللغة العربية.. وتعكس مواقف وسياسات الدول التابعة لها طبعا.

نصف المشاهدين من الشباب يشاهدون الفضائيات العربية بحثا عن التسلية و35% يشاهدون بهدف معرفة مشكلات المجتمع وحلها.. وعند جمع القنوات ذات الطابع الديني التي ظهرت في نتائج البحث ومنها قناة الناس ـ واقرأ ـ والمجد ـ والعفاسي والرسالة ـ والرحمة ـ والحكمة ـ والبدر ـ وأزهري.. فإن نسبة المشاهدة فيها19% بينما كانت البرامج الرياضية والمباريات في المرتبة الأولي بنسبة49% والبرامج ذات المضمون الديني بعدها بنسبة47% ومما يستحق الاهتمام من نتائج هذا البحث أن50% لا يشاهدون القنوات الفضائية المصرية.. وهؤلاء قالوا إن هذه القنوات تعرض موضوعات وأفكارا قديمة ومكررة.. ولا تعرض قضايا المجتمع بموضوعية وتعمل علي تزييف الواقع.. هل فقدت هذه القنوات المصداقية لدي نصف مشاهدي التليفزيون. ؟.. سؤال يحتاج إلي بحث من الخبراء والمختصين بدلا من الإجابات الانشائية الجاهزة عن تطوير الرسالة الإعلامية, البحث بموضوعية أفضل من الانكار لإعادة الثقة بين الإعلام القومي والجمهور العربي. من الايجابيات المبشرة التي كشف عنها هذا البحث.. أن الشباب من عينة الدراسة يفرز ويحلل ما يقال ويعلق عليه مع الآخرين و90% قالوا إنهم يتابعون الأحداث في وقتها.. وأن القنوات الفضائية من المصادر المهمة للمعلومات... قال17% إن مشاهدة هذه القنوات يضيع الوقت.. وقال53% إن لها تأثيرا سلبيا علي سلوكيات الشباب.. و50% قالوا إن هذه الفضائيات تعرض برامج لا تتناسب في مضمونها مع عاداتنا وتقاليدنا.. وأنها غيرت العادات المرتبطة بالملابس والأزياء.. وأثرت علي لغة الشباب في الحوار.. وهذا يؤدي بنا إلي التساؤل: إلي أي مدي يمكن حماية ثقافة الشباب من الآثار السلبية لهذه الفضائيات.. فقد أشار72% إلي أن الشباب يقلد ما يشاهده و44% قالوا إن ما تعرضه هذه الفضائيات أسهم في نشر العنف و28% قالوا إن الفضائيات هي السبب في انتشار ثقافة الاستهلاك.. ومثلهم قالوا إن مضمون المادة الإعلامية في هذه الفضائيات يهدد الخصوصية الثقافية المصرية ـ وينشر عدم التسامح وعدم قبول الآخر و77% قالوا: إن هذه الفضائيات هي المسئولة عن التغيير السلبي الذي طرأ علي العادات والتقاليد في المجتمع.

يطرح خبراء المركز القومي للبحوث الاجتماعية أسئلة ينتظرون الإجابة عليها من الجمهور والخبراء.. أسئلة تتعلق بالمستقبل وتستحق أن نفكر فيها جميعا مثل: هل يمكن أن يعمل الإعلام علي تكوين رأي عام بعيدا عن الأيديولوجيات العنيفة لتبني مشروع قومي لبناء المجتمع.. ويعيد الثقة في النفوس أم سيستمر في تعميق أزمة الثقة.. وهل سيظل في تعميق مشاعر الغضب بتكرار الحديث عن مفاسد الماضي أم سيشعر بمسئوليته عن البناء أو عن المستقبل؟


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف