أفكار من المرصد الاجتماعي

المركز القومي للبحوث الاجتماعية هو المرصد الاجتماعي الذي يدرس ويحلل الظواهر والمشكلات بمنهج علمي لتكون تحت نظر المسئولين عن وضع السياسات واتخاذ القرارات لكن ذلك لايحدث فالبحوث والباحثون في واد وأصحاب القرار في واد آخر والعلماء يجتمعون ليعرضوا نتائج أبحاثهم ويتبادلا الآراء ولكنهم يحدثون أنفسهم ولا يستمع اليهم ولا يستجيب لهم المسئولون‏.‏

شعرت بأن الخبراء والباحثين في المرصد الاجتماعي أجهدوا انفسهم في البحث والمناقشة ولكنهم يشعرون بالمرارة لأن كل هذا الجهد لا يجد التقدير والاستجابة لحل مشكلات نوقشت منذ سنوات طويلة ولاتزال تدور في حلقة مفرغة ولايزال الحديث يتكرر عن ضرورة الاتفاق علي عقد اجتماعي جديد وبرنامج لبناء المجتمع المصري من جديد وتجمع القوي الرئيسية التي يمكن أن تلتقي وتتحالف لبناء هذا المجتمع الجديد الذي تحلم به وغياب الدور الذي يفترض أن يلعبه المثقف المصري والعرب ولكن ذلك كله لايزال في دائرة القول ولم ينتقل الي دائرة الفعل.

ومن امثلة الانفصال بين القول والفعل أن الحديث كان يتكرر عن التفاوت الهائل في الدخول وتزايد الفقر والعشوائيات والبطالة والآثار السلبية لسياسات الخصخصة واطلاق الحرية للرأسمالية بغير حدود للاستيلاء علي مفاتيح الاقتصاد الوطني مماأدي الي تدهور احوال قطاع كبير من الطبقة المتوسطة وانهيار أوضاع الطبقات الفقيرة كل ذلك كان موضوعا للخطب والاحاديث ولم يدخل في دائرة التنفيذ حتي شعار العدالة الاجتماعية مجرد شعار للعرض فقط.

وما أكثر الكلام الذي قيل عن التزام الدولة برعاية الفئات محدودة الدخل والاعلان عن مشروعات توفر فرص العمل وتضاعف الصادرات وماأكثر ماسمعنا عن المسئولية الاجتماعية للدولة وعدالة توزيع الاستثمارات في انحاء البلاد وإنصاف الصعيد بصفة خاصة وتقريب الفوارق بين القرية والمدينة ورعاية الشباب والقضاء علي العشوائيات وضمان وصول الدعم الي مستحقيه والتوسع في المشروعات الصغيرة والمتوسطة وانهاء حرمان ملايين المواطنين من مياه الشرب النقية ومن الصرف الصحي, ولكن هل وضعت كل هذه الشعارات الجميلة موضع التنفيذ من خلال تشريعات وهل نفذت البرامج التي أعلنتها الحكومات المتعاقبة عن الاصلاح الاجتماعي؟

استاذ القانون الدكتور إمام حسنين خليل أجاب عن هذه الأسئلة في بحث من ابحاث المرصد الاجتماعي بأن الحكومات السابقة لم تكن لديها سياسة تشريعية واضحة لتنفيذ هذه الأهداف دليلا علي جديتها, ولكن هذه الحكومات كانت حريصة علي الهرولة غير المحسوبة لمنح حوافز واعفاءات لاصحاب الاعمال ليس لها مثيل في الدول الأخري وفي نفس الوقت لم تكن لها سياسة تشريعية مماثلة لتحقيق العدالة الاجتماعية, أما البرلمانات فلم يزد دورها علي انتظار ماتتقدم به الحكومة من تشريعات لإقرارها, وهكذا سارت الحكومات دون سياسة تشريعية تدل علي جديتها في تحقيق العدالة الاجتماعية بل ان السياسة التشريعية انحازت الي أصحاب الاعمال وقدمت لهم امتيازات في الضرائب والجمارك وتسهيلات البنوك والحصول علي الأراضي لكي تمكنهم من تحقيق المزيد من الأرباح علي حساب الملايين من ابناء الشعب واقتصرت القوانين ذات الطبيعة الاجتماعية علي منح العلاوة السنوية ممايدل علي أنه لم يكن هناك توجه حقيقي لتحقيق العدالة الاجتماعية.

بعد الثورة لابد من مراجعة التشريعات الاقتصادية والمالية واعادة النظر في الاعفاءات والامتيازات المبالغ فيها الممنوحة لاصحاب المشروعات التي تبالغ في ارتفاع اسعار منتجاتها ولا يستفيد منها المواطن بل إن أصحاب المشروعات ينقلون عبء الضريبة في النهاية الي المستهلك ومن الغريب ان يصاحب ذلك تشريعات بإلغاء الاعفاءات الضريبية للمؤسسات التعليمية والغاء دعم الطاقة لبعض المشروعات وزيادة اسعار البنزين والسولار علي ان ذلك لتحقيق العدالة الاجتماعية ولكن النتيجة كانت العكس حيث لجأ أصحاب المشروعات الي زيادة الأسعار فتحمل المواطن المزيد من الاعباء ولم تتحقق العدالة الاجتماعية بطبيعة الحال لأنه لم تتخذ اجراءات لضمان حماية المواطن من جشع أصحاب الأعمال وعدم استعدادهم لخفض نسبة أرباحهم بأي حال. والخلاصة أننا نحتاج الي تشريعات وإرادة سياسية جادة لتحقيق العدالة الاجتماعية أي أننا نحتاج الي عمل وتنفيذ ولا نحتاج الي مزيد من الخطب والوعود.

علي الجانب الآخر فإن العدالة لم تتحقق عن طريق التعليم والمفروض ان التعليم هو الطريق الوحيد أمام الطبقات المتوسطة والفقيرة للحصول علي وظائف ومواقع اجتماعية لتحسين أوضاعهم ولكن ماكشفت عنه البحوث أن خريجي التعليم الحكومي كانت فرصة الحصول علي عمل بالنسبة لهم محدودة جدا ونسبة البطالة بينهم كبيرة بينما يحصل خريجو التعليم الأجنبي علي الوظائف المتميزة وهؤلاء هم أبناء الطبقات القادرة ماليا علي تحمل نفقات هذا التعليم والنتيجة أن ابناء الأغنياء هم الذين يحصلون علي الفرص المتاحة في المجتمع ويحرم منها أبناء محدودي الدخل الذين تتحدث الخطب عن رعاية الدولة لهم.. قضية العدالة الاجتماعية لها أبعاد كثيرة تتصل بالتشريع وبالتعليم وبالارادة السياسية ولها أيضا أبعاد اجتماعية وأخلاقية ولابد أن تعالج بجدية شديدة حتي لا تتمكن البيروقراطية المصرية من افراغها من مضمونها.


 


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف