أعداء حرية الصحافة

تتعرض الصحافة هذه الأيام الي هجمة شرسة تتجاوز الحدود وتنذر بأن هناك من يفكر في اغتيال حرية الصحافة‏,‏ وفرض القيود علي حقها في حرية نشر الأخبار والحقائق‏,‏ وتحويلها الي مجرد أبواق تردد الدعايات وتروج لجماعة معينة وتخفي عن الناس أخطاءها والقصور في أدائها‏.‏

وفي جلسة لمجلس الشعب, شن النواب هجوما حادا علي الإعلام والصحافة وطالب رئيس المجلس من وزير الإعلام التدخل لضبط ما سماه قلب الحقائق وتشويه صورة البرلمان.. ووجه بعض الأعضاء سخطهم علي الصحافة بزعم أن فيها ألفاظا غير لائقة وتشهيرا بالتيار الإسلامي, واعتبر رئيس المجلس وزير الاعلام مشاركا في هذه الجريمة (!).. وفي مجلس الشوري تجري الآن الإعداد لما اعتبره البعض مذبحة الصحافة واعتبره البعض الآخر مذبحة لحرية الصحافة وعودة الي الصحافة الشمولية التي يفرض عليها أن تجمل الوجوه والأفعال غير الجميلة, وكان الداعية السلفي الشيخ علي قاسم هو الأكثر صراحة في التعبير عما في الصدور, حين أعلن في مؤتمر انتخابي في بني سويف أن الإعلام والإعلاميين كاذبون ومضللون ومنافقون مما اضطر الصحفيين ومراسلي القنوات الفضائية إلي الانسحاب من المؤتمر.

ويبدو أن الصحافة مكتوب عليها أن تكون كبش الفداء في كل عصر, فهي تنشر ما يحدث, وتحاول أن تكون مرآة المجتمع بما فيه من حسنات وسيئات, ولكن مرتكبي السيئات, والمدمنين علي ارتكاب الأخطاء تضيق صدورهم حين يجدون أخطاءهم منشورة علي الناس, ويوجه النقد إليها وهم يريدون الا يطلع الناس علي مواقفهم, وأكثر من ذلك يريدون من الصحافة أن تجمل وتبرر هذه المواقف, وفي أي مجتمع يمكن أن نجد مسئولا انحرف, أو عضوا في البرلمان أخطأ, أو قرارا صدر جانبه الصواب, ومهمة الصحافة أن تلقي الأضواء الكاشفة علي كل ما يحدث في المجتمع ومؤسساته من أخطاء أو انحرافات أو جرائم, فإذا لم تفعل فإنها تكون قد ارتكبت جريمة خيانة الأمانة, ويحدث أن تنشر الصحف مقالات أو تعليقات أو أخبارا يعتبرها البعض اساءة إليهم, وبعض ما ينشر قد يتضمن جريمة السب والقذف وفي هذه الحالة يحق لمن أضير حق الرد والصحيفة ملزمة بنشره بحكم القانون, وله أن يلجأ الي القضاء, ولكن المشكلة أن الهجوم علي الصحافة أصبح ينصب علي النقد المباح أي علي إبداء الرأي في عمل أو موقف أو تصريح دون اهانة صاحب الرأي أو صاحب القرار.

وكنا ننتظر بدلا من الهجوم علي الصحافة, أن يكون أصحاب التيار الاسلامي هم أكثر الناس دفاعا عن الحرية لأنهم أكثر الناس ادراكا لأهميتها لاستقامة الحياة وسلامة المجتمع, وقد ذاقوا مرارة الحرمان من الحرية, وكنا نظن أن مجلس الشوري سوف يطالب بقانون يحظر عقوبة الحبس في قضايا الرأي والنشر, والزام جميع الجهات والمؤسسات بحق الصحفي في الحصول علي المعلومات الصحيحة ونشرها وفرض عقوبة علي كل من يدلي الي الصحافة بمعلومات غير صحيحة بقصد اخفاء الأخطاء والسلبيات, واعتبار تضليل الرأي العام جريمة لا تسقط بالتقادم. مع ملاحظة أن القضاء المصري العظيم استقر علي أن بعض الحدة في الرأي مقبول مادام يتماشي مع المصلحة العامة, والقانون يسمح بالطعن في أعمال كل شخص في مجال من مجالات الخدمة العامة مهما يكن منصبه ومهما تكن مكانته, وليس هناك قداسة لشخص تحرم أصحاب الرأي من أن يقولوا رأيهم في تصرفاته مادام النقد ـ مهما يكن قاسيا ـ في نطاق أعمال الوظيفة أو المنصب.

ولعل أعضاء البرلمان ورموز التيار الإسلامي وكل من يوجه سهامه الي الصحافة والصحفيين يضعون في اعتبارهم الحكمة التي تقول يوم لك ويوم عليك, فإذا كانوا اليوم في موقع يسمح لهم بالتضييق علي الصحافة وحرمانها من الحرية التي لا تستقيم الحياة السياسية بدونها, فقد يكونون هم أنفسهم ضحايا لهذه الصحافة المكبلة بالقيود والتي سمحوا بأن تكون سلاحا في يد من يملك السلطة, ولعلهم يدركون أن تحويل حرية الرأي تحت القبة أو في المؤتمرات أو في الصحافة إلي تراشق بالسهام المسمومة واطلاق الاتهامات المرسلة بغير دليل أو بإشاعة جو من عدم الثقة لن يفيد البلد ولن يفيد حتي من يتناولهم النقد, والحكمة تقول رحم الله من أهدي إلي عيوبي.. وقد يفيدهم الاطلاع علي الاعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في عام 1948 والعهدين الدوليين المكملين له وما فيهما من قواعد للحريات العامة وحقوق الإنسان وحرية الصحافة والإعلام.


 


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف