من الواضح أن التيار الإسلامي في تونس أكثر نضجا وأكثر واقعية وفهما لطبيعة العصر, فبعد الثورة لم يحاول حزب النهضة أكبر الاحزاب الإسلامية الاستيلاء علي سلطات الدولة جميعها كما حاول التيار الإسلامي في مصر .
ومد يده منذ البداية إلي التيارات الأخري ولم يزاحمها, ولم يدع أنه الذي يمتلك الحقيقة والصواب وحده كما حدث عندنا.
وبعد أن حصل حزب النهضة علي أكبر عدد من المقاعد في المجلس التأسيسي, كان أول إعلان له أنه لن يطالب بأن يكون الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع في الدستور الجديد ليحسم بذلك الجدل حول هوية الدولة( دينية أم مدنية) وقرر الابقاء علي النص كما ورد في الدستور السابق( تونس دولة حرة لغتها العربية والإسلام دينها), وأعلن الحزب أنه اتخذ هذا الموقف حرصا علي وحدة شعبنا ولا نريد شروخا ولم يلجأ إلي النفاق السياسي لكسب شعبية زائفة. وطالب الحزب بقية الاحزاب بعدم الخضوع لاصحاب الصوت العالي وتمسك بوعده الذي قطعه قبل الانتخابات بأن تونس لن تكون إلا دولة مدينة ديمقراطية, وقال زعيم الحزب ـ راشد الغنوشي إن الشعب التونسي شعب مسلم ومتحد في ذلك, وعدم النص في الدستور علي أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع لا يعني خروج تونس من الإسلام, والقوانين الحالية في تونس مستمدة من الشريعة الإسلامية بنسبة80% ويجب أن تكون الأولوية في هذه المرحلة ـ عقب الثورة ـ لبناء الدولة علي أساس نظام ديمقراطي يضمن الحريات للجميع( وفقا لمبدأ المساواة والمواطنة وعدم التمييز علي أساس ديني أو عرقي.. الخ) وبهذه الرؤية الناضجة أعلن أن مناقشات إعداد الدستور وإجراءات الاستفتاء عليه قد تستغرق سنة, وسيكون التصويت عليه في المجلس التأسيسي مادة مادة, ثم علي الدستور ككل, وإذا لم تحصل المادة أو الدستور علي الاغلبية يحال الأمر إلي الاستفتاء الشعبي العام.
وموقف التيار الإسلامي من قضية تطبيق الشريعة موقف واقعي بعيد عن الادعاء والمزايدات وهو أن تطبيق الشريعة يجب أن يسبقه توفير الظروف الاجتماعية والاقتصادية المناسبة لذلك, كما أن تطبيق الشريعة لا يعني معاقبة الناس, وضرب رئيس الوزراء( حمادي الجبالي) مثلا علي ذلك بأن الإسراع في منع الخمر لن يحل مشكلات الشعب التونسي( البطالة- ارتفاع الأسعار- نقص الخدمات الصحية والتعليمية والبيئية... الخ) وإذا اتخذت الحكومة قرارا بغلق محال بيع الخمور فإن ذلك سيجعل الخمارات في البيوت, لذلك قبل التعجيل بالمنع يجب بحث ومعالجة اسباب انتشار الخمور والمخدرات.
وتعليقا علي التيار المتشدد كتب راشد الغنوشي وهو وحزبه رافد من روافد الإخوان المسلمين وهو في نفس الوقت مجدد ـ وليس مرددا لكل ما في كتب التراث ولذلك يقول:( يشعر المرء بنوع من القرف من استمرار هذا العفن في تراثنا الديني وفكرنا السياسي, وهذه الألغام التي قوضت حضارة الإسلام وأسلمتنا إلي الانحطاط, ولا أمل في انطلاقة قادرة علي إنتاج الحضارة من جديد في أمتنا من دون ثورة شاملة تطيح بهذه السموم التي لاتزال تجري في دماء الأمة وتشل طاقاتها وتجهض انتفاضاتها وتحبط احلام نهضتها).
وهو لذلك يعلن الحرب علي هذا العفن في تراثنا الديني, ولا يخشي مزايدات المتنطعين الذين حذرنا منهم الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ بقوله:( هلك المتنطعون..هلك المتنطعون) ويقول: لايزال شطر كبير من جهودنا يضيع ليس في مقاومة الغزو الفكري ونشر الإسلام وبناء مؤسسات النهضة, لكن تضيع جهودنا في اجترار الانحطاط وإعادة إنتاجه وفي أفضل الاحوال في مقاومته بنفس منطقه, ولايزال عندنا من يجتر دون خجل حديثا عن أن الشوري ليست ملزمة للحاكم, وآخرون يرددون دون حياء أن رئيس الدولة هو الدولة.. ويدعون أن ذلك هو الإسلام!
مثل هذه الأقوال كثيرة جدا مع الأسف, فهناك من يرددها علنا ويعطي بذلك للغرب الفرصة لوصف الإسلام بالتشدد وتتصيد وسائل الإعلام الغربية أقوال هؤلاء عن المرأة أو غير المسلمين أو عن العداوة للغرب دون تمييز, والخلاصة أن بعض فصائل التيار الإسلامي عندنا تحتاج إلي التحلي ببعض التواضع والتخلي عن الشعور بأنهم وحدهم أصحاب الحكمة ولايستمعون للرأي الآخر.