ظل البابا شنودة حتي اللحظة الأخيرة متمسكا بموقفه برفض السماح للأقباط المصريين بزيارة القدس, علي الرغم من الضغوط التي تعرض لها من قوي وجهات في الخارج والداخل, وتمسك بموقفه المبدئي أن أقباط مصر.
لن يدخلوا المدينة المقدسة وهي تحت الاحتلال وأسيرة العدوان.
وفي حديث لي معه في السبعينيات, نشر في الأهرام, قال إن الأقباط لن يدخلوا القدس إلا مع المسلمين وبتأشيرة من الدولة الفلسطينية وليس من سلطات الاحتلال, وإن المؤمنين لا يدخلون مدينة إلا وهم رافعو الرءوس, وقال: إنهم يطلبون مني أن أغير موقفي.. هل غيرت إسرائيل موقفها؟ إن تغير موقف العرب أضعف القضية.. إسرائيل انتقلت من التطبيع الي الهيمنة وأصبح ما تعطيه للفلسطينيين منحة وتفضلا وتستغل سكوت العرب وتغتصب المزيد من الأرض والحقوق الفلسطينية.. وتمارس قتل الفلسطينيين واعتقالهم وحصارهم وتضرب بقرارات المجتمع الدولي عرض الحائط.
وقلت له إن الأقباط يعبرون عن رغبتهم في الحج الي الأرض المقدسة, قال: إن الله لا يدخل المسيحيين الي ملكوته لأنهم زاروا الأرض المقدسة, وانما يدخلهم ملكوته بنقاء القلب وطاعة الله, وأنا أقول لأبنائي: هل تريدون زيارة الأماكن المقدسة.. زوروها في مصر, فالمسيح والسيدة العذراء زارا مصر, وتنقلا في أماكن كثيرة, ووجدا فيها الملجأ والملاذ من اضطهاد اليهود, وفي ذلك حكمة من الله ورسالة منه بأن أرض مصر مقدسة.. واذا قيل إن المسيح تم تعميده في مياه نهر الأردن أقول إنه شرب من ماء النيل ـ هو وأمه المقدسة ـ فماء النيل أيضا مقدس, وأقول لهم أيضا: ليس في المسيحية فريضة الحج, وزيارة القدس ليست من أركان الدين المسيحي, وهذا اعتقاد شعبي مصري ليس من فروض المسيحية.. وأقول لهم: لقد عرض علي مرارا زيارة القدس ورفضت, ولن أزور القدس إلا وهي تحت حكم أهلها الفلسطينيين.. وحين قال لي رجل عجوز: أريد قبل أن أموت أن أري الأرض التي ولد وعاش فيها المسيح, فقلت له: مت وأنت مطمئن وسوف تري المسيح نفسه وتعيش معه أيضا.. وأقول دائما: إن السماح بزيارة المسيحيين للقدس في ظل الأوضاع الحالية يعني ضمنا القبول بما تفعله إسرائيل, وهذا مستحيل.. وأقول: إن زيارتكم للقدس تنشط السياحة الإسرائيلية وتقوي اقتصاد إسرائيل, فكيف تقبلون أن تكونوا مصدر دخل لها واقتصادها اقتصاد حرب ضد العرب.. ثم انني أخشي أن يتعرض زوار القدس لعملية غسل مخ بطرق مختلفة, ويمكن أن يجندوا بعض شبابنا الساذج.. وأخيرا فإن هذه الزيارة تعني الرضا بالأمر الواقع, وهذا يضر بالقضية الفلسطينية ضررا بالغا.
وعن أرض مصر المقدسة التي يدعو المسيحيين الي الحج إليها قال: مصر ورد ذكرها كثيرا في الكتاب المقدس, وشرفها عدد كبير من الأنبياء بالزيارة في مقدمتهم أبوالأنبياء إبراهيم, ويوسف الصديق, والنبي يعقوب, وأخيرا السيد المسيح الذي أتاها طفلا هاربا من اليهود تحمله العذراء مريم فوجدا فيها الملاذ والأمن.. لهذا كله أقول مصر أرض مقدسة يصح أن يحج إليها الناس.
وحين سألته عن أساطير اليهود ومنها أن سيناء أرض الموعد, قال: سيناء كانت لليهود أرض المتاهة والعقوبة من الله, فرض الله عليهم التيه فيها أربعين سنة, وهي الأرض التي شهدت تذمر اليهود علي الله, وشهدت كيف تركوا عبادة الله وعبدوا العجل, وشهدت غضب النبي موسي عليهم حتي إنه كسر ألواح الشريعة في غضبه, فهي أرض ليست لهم, ولا يشرفهم أن يسترجعوا ذكريات تاريخهم فيها, فلم تكن أرض بركة لهم, ولكنها كانت أرض متاهة وعقاب من الله, ولا تنس مرحلة كانوا يقتلون فيها الأنبياء وقال لهم المسيح: يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين.. هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا, وقال لهم: أيديكم ملآنة دما.
وقال لي: لقد مر اليهود بثلاث مناطق: مصر وكانت لهم أرض عبودية بسبب خطاياهم, وسيناء كانت أرض متاهة وعقوبة وعبور, أما فلسطين فكانت مسكننا مؤقتا كمعزل ديني, وفي تاريخهم أنهم في فترات تركوا الله وعبدوا الأصنام.. وحين سألته: وكيف يقولون إنهم شعب الله المختار؟ قال: هذه مرحلة تاريخية انتهت.. في البداية كانوا هم المجموعة الوحيدة التي تعرف الله, أما الآن فقد أصبح شعب الله المختار هو كل شعب يؤمن بالله.. وكلمة المختار في الكتاب المقدس تعني المؤمن لأنه ليس من المعقول أن يرفض الله كل المؤمنين به ويختار اليهود وحدهم, وحين التقيت الرئيس كارتر في البيت الأبيض سألني: هل صحيح أنك تقول إن اليهود ليسوا شعب الله المختار؟ فقلت له: إذا كانوا هم شعب الله المختار فماذا أكون أنا وأنت؟ وضحك الرئيس كارتر.. فالله ليس عنده محاباة.. الله ليس عنصريا.. الله خالق كل الشعوب.. وكل المؤمنين به رعية الله وشعبه المختار.