لو كان العقاد حيا لقدم لنا كتابا في سلسلة العبقريات الشهيرة عن عبقرية البابا شنودة, لأن صفات العبقرية متوافرة في شخصية البابا, ومفتاح شخصيته أنه متصل بالسماء وبالأرض, هو قديس زاهد ومن كبار الصوفية, وقد أضاف الي التصوف المسيحي الكثير.
, وهو في نفس الوقت لم ينعزل عن الناس ومشاكلهم وظل منغمسا في الحياة العامة حتي آخر أيامه.
عبقريته متعددة الجوانب, زعيم روحي, وزعيم اجتماعي, وأديب وشاعر, وله آراء ومواقف في الإصلاح السياسي والوحدة الوطنية, وترك لنا أكثر من ستين كتابا من تأليفه شملت جوانب عديدة من الفكر.. كتب في اللاهوت.. وكتب في الإصلاح الاجتماعي والتنمية البشرية, ودواوين شعر, وكتب في الفلسفة.. وله آلاف المقالات المنشورة في الصحف والمجلات بدأها في جريدة الجمهورية في السبعينيات, واخرها سلسلة المقالات الأسبوعية التي كانت تنشر بانتظام في الأهرام ولم تنقطع إلا برحيله.
في الأيام الأولي التي بدأت فيها عملي رئيسا لدار المعارف ومجلة أكتوبر كان البابا شنودة أول من زارني ومعه سكرتيره الوفي الأنبا يؤنس, وكانت هذه أول زيارة له لدار صحفية, وبعدها تكررت زياراته لمجلة أكتوبر في ندوات مع الزملاء من محرري وكتاب المجلة, وكنا فخورين بنشر ملخص لكل ندوة, وكانت هذه الندوات بداية لاقتراب عدد من كتاب اكتوبر بالبابا, وعلي سبيل المثال فقد أجري الزميل الراحل محمود فوزي حوارات مع البابا نشرت في المجلة, ونشرت بعد ذلك في كتب, وكذلك فعل بعض الزملاء الآخرين.
وربما لا يعرف كثيرون أن البابا شنودة كان أديبا كتب القصة القصيرة والتمثيليات كما أن له ديوان شعر بعنوان انطلاق الروح وعندما زاره الشيخ متولي الشعراوي في الكاتدرائية استمع الي بعض قصائده وأعجب بها, وطلب منه نسخة من ديوانه, كما قرأ الشيخ عددا من قصائده للبابا وكلاهما شاعر موهوب, وكلاهما يتمتع بروح الفكاهة والبساطة, ولذلك اقترب كل منهما من الآخر, وقد لا يعرف كثيرون أن البابا شنودة كتب تمثيلية في سنة 1954 بعنوان( في جنة عدن) وشخصياتها آدم وحواء وملائكة وأسد وفهد وحية, وكتب الحوار فيها شعرا, وكتب قصصا قصيرة لا نعرف عنها إلا ماذكره عنها, وعندما سئل عن الوقت الذي يجده للأدب أجاب بأن كتابة الأدب ليس لها وقت, والأدب يكتب نفسه, أي إن الفكرة والموضوع يفرضان نفسيهما علي الأديب, والقصيدة أو القصة عندما تكتمل في داخله وتوشك أن تولد فإنها تجد لنفسها الوسيلة للظهور, وتضغط حتي يجد الإنسان وقتا لكتابتها, واعترف بأنه كتب بعض القصائد والقصص ولم يستطع أن يكملها, وقال عنها أنها ولدت ناقصة.
اما الأبحاث التي كان يكتبها فهي تتم بسلاسة أكثر لأنها جزء من عمله ولابد من إنجازها في وقت معين دون انتظار الوحي أو الإلهام, كما في الأدب.
عبقريته ـ في نظر كثيرين ـ تتجلي في ثقافته العربية والإسلامية الرفيعة, وايمانه بوحدة الشعب المصري, وعبر عن ذلك المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بقوله إنه كان داعيا للوحدة الوطنية, وله مواقفه الكثيرة ضد الفتن في الوطن, وبدأت وصيته التي أعلنت في جنازته بكلمات لكل المصريين قال فيها أحبوا بعضهم, واحفظوا بلدكم من الوقيعة, وهو الذي اعترض علي انشاء حزب سياسي قبطي, وقال إن الحزب السياسي لا يقوم علي أساس ديني أو طائفي, ولكن يجب أن يكون مفتوحا لكل المصريين, وهو الذي رفض الدعاوي للتدخل الأجنبي بحجة حماية الاقباط, وقال: إذا كانت حماية الأقباط ستكون بتدخل أمريكا في الشئون الداخلية للبلاد, فليمت كل الأقباط, ولا يتدخل أحد في شئوننا, وهو الذي رفض السماح للأقباط بزيارة القدس إلا بعد عودتها لأصحابها العرب, وهو الذي رفض اقتراح الرئيس السابق مبارك بأن يكون عيد القيامة إجازة لكل المصريين مثل عيد الميلاد, وقال إن ميلاد المسيح وقدسيته لا خلاف عليهما مع المسلمين, ولكن القيامة موضع خلاف ولا داعي لإثارة هذا الخلاف العقائدي.
وكان مستوعبا للفكر والثقافة والفقه الإسلامي, قرأ القرآن وكان يستشهد بآيات منه في خطبه وأحاديثه, وله دراسة عن المسيحية في القرآن الكريم شرح فيها ماجاء في القرآن عن المسيح والسيدة مريم, وعن الديانة المسيحية والانجيل.
وآيات القرآن الكريم تؤكد أن المسيحية ديانة سماوية, وللمؤمنين بها أجرهم عند ربهم, وأنهم أقرب مودة الي المسلمين, وأنهم متواضعون ولايستكبرون, وكلما ذكر القرآن المسيح يؤكد علي انه كلمة الله, وروح منه, من أقواله الحكيمة: اعط قلبك لله وللناس قبل أن تعطي مما في جيبك.
إن عبقريته ـ في النهاية ـ من ثمار عبقرية مصر.