كان البابا شنودة هو صاحب العبارة التي تحولت إلي شعار لكل المصريين والتي تقول إن مصر ليست وطنا نعيش فيه ولكنها وطن يعيش فينا, وبعد رحيله صار هو أيضا يعيش فينا.
فهو يعيش فينا ـ مسلمين وأقباطا ـ لأنه كان قديسا وطنيا, ورمزا من الرموز التاريخية التي تفخر مصر بأنها أنجبتهـا يعيش فينا بالفكر العميق المتميز, يعيش فينا زعيما روحيا وقائدا لحركة كبري لاصلاح الكنيسة وللإصلاح الاجتماعي, ويعيش فينا بروحه السمحة وابتسامته الأبوية وقدرته علي نشر مظلته علي الجميع ـ الأقباط والمسلمين ـ وبالمبادئ والقيم الأخلاقية وقد ظل أربعين عاما في العقول والقلوب, وكانت حياته تجسيدا لكل هذه الأفكار والمبادئ والقيم.
أسعدني الحظ بالاقتراب منه أكثر من ربع قرن, وشرفني حين سئل في حوار تليفزيوني عن أصدقائه من المسلمين فذكر اسمي, وبالفعل كنت حريصا علي اللقاء معه منذ السبعينيات في مقر إقامته في البطريركية بالقاهرة وفي الدير في مقره الخاص الذي يعتكف فيه للصلاة والتأمل وخصص لي فيه قلاية قضيت فيها ليلة وصاحبته48 ساعة ودفعني إلي ذلك الرغبة في الاقتراب منه أكثر ومعايشته في حياته اليومية ومعايشة حياة الرهبان, وطبعا كان دافعي أيضا الفضول الصحفي من ناحية, والرغبة في المعرفة أكثر عن الحياة في الدير وهذه الحياة كانت بالنسبة لي تجربة مثيرة وكذلك اكتشاف القاسم المشترك الذي يجعل للشعب المصري هذه الخصوصية التي جعلت من الصعب التفرقة بين المسلم والمسيحي وما يظهر علي السطح في بعض الأحيان من توتر أو تعصب علي الجانبين هو استثناء وخروج علي السياق العام مصيره دائما إلي زوال, وقد جمعت بعض ماخرجت به من هذه اللقاءات بتسجيل عشرات الساعات من الحوار معه, وجمعت بعضها في الجزء الأول من كتابي حوارات مع البابا شنودة: الأقباط في مصر والمهجر والجزء الثاني في الطريق.
شخصية البابا شنودة شخصية نادرة, فيها طبقات فوق طبقات فهو ابن ثورة1919 وفيه روحها الوطنية وهو زعيم روحي له مؤلفات متخصصة في العقيدة المسيحية حين تقرؤها لاتجد فيها اختلافا كثيرا عن روح الإسلام وكان يعبر عن هذه الروح في افتتاح خطبة بعبارة( باسم الإله الواحد الذي نعبده جميعا) وهي عبارة بالغة الدلالة علي أن الديانات السماوية مصدرها واحد وأتباعها يعبدون الله الواحد, وللبابا شنودة جانب آخر, فهو شاعر وله دواوين منشورة اختار فيها قصائده من الشعر الصوفي التي يناجي فيها الله, ولكن لديه مئات القصائد الأخري قال لي إنها ليست للنشر.. وهو مدمن للقراءة, فقد كان والده محبا للكتب ولديه مكتبة كبيرة فاكتسب منه هذه الفضيلة, ولذلك اختار أن يكون مسئولا عن مكتبة الدير حين دخل سلك الرهبنة, ثم صار ـ بعد سنوات ـ أسقف التعليم ومسئولا روحيا وأكاديميا عن الكلية الإكليريكية, وعاش حياته مرتبطا بالفكر, وكان يدهشني حديثه عن المنفلوطي ولطفي السيد وأحمد أمين وشوقي وطه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وغيرهم من كبار الأدباء في مصر والعالم, فقد كان يجيد اللغة الانجليزية ويقرأ الكتب التي تصدر في أمريكا وأوروبا, وكنت ألاحظ أن له في الكاتدرائية وفي الدير مكتبات مليئة بكتب متنوعة في عقائد وشرائع الديانات المختلفة إلي جانب كتب التاريخ والأدب والفلسفة ودواوين الشعر, وحين طلبت منه أن ألقي نظرة علي مسكنه الخاص في الدور الثاني داخل الكاتدرائية فوجئت بكتب كثيرة متنوعة في المكتبات وعلي الموائد والمقاعد وبعضها مفتوح لذلك كان البابا شنودة من كبار المثقفين في العالم العربي, وكان يحفظ عشرة آلاف بيت من الشعر يستشهد ببعضها في أحاديثه, كما يستشهد أحيانا بآيات من القرآن وبأحداث في التاريخ الإسلامي, ولاننسي أنه تخرج في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة( فؤاد الأول) القاهرة حاليا.
تكوين شخصيته تميزه روح المحبة التي تلمسها فيه من أول نظرة, وذكاء حاد تراه في لمعة العينين, وسرعة البديهة وحضور الذهن وطبيعة مرحة تجعله دائم الابتسام, ولا يخلو حديثه من طرائف ونكت وحين يضحك يضحك من قلبه, وحين يبكي أمام الهيكل ـ فإنه يبكي من قلبه, وحين يناجي الرب يتحول إلي روح محلقة.. وثقافته الموسوعية تجعل حديثه في أي موضوع حديث عالم متعمق في معرفة مايتحدث عنه, ولذلك كان أبرز المتحدثين في جلسات افتتاح المؤتمر الإسلامي الذي كان شيخ الأزهر ووزير الأوقاف حريصين علي أن يكون علي المنصة معهما في هذا المؤتمر ليتحدث إلي علماء الإسلام المشاركين فيه من جميع دول العالم في سابقة لم تحدث من قبل.
كان كثيرا مايردد قول شوقي:
الدين للديان جل جلاله.. لو شاء ربك وحد الأديانا.