من الواضح أن الشعب المصري قد تخلص ـ بثورته ـ من السلبية التي فرضت عليه وأصبح راغبا في المشاركة في كل شئون بلده, وهذا ما نلمسه من الحماسة المبالغ فيها لأعضاء مجلس الشعب الجديد, والمظاهرات والانفعالات المبررة وغير المبررة.
وأخيرا في الزحام غير المسبوق علي سحب استمارات الترشح لرئاسة الجمهورية.
ينظر البعض إلي هذا الزحام علي أنه مشهد كوميدي لأن من بين الواقفين في الطابور من لا تتوافر فيه المواصفات اللازمة لوظيفة رئيس حي, ولكني أراه مشهدا يعبر عن رد الفعل الطبيعي بعد عشرات السنين من احتكار السلطة, وإحساسا بالتحرر وبالحق في الحلم والشعور بالثقة في أن البلد عادت إلي أصحابها الحقيقيين, فلم يعد جزاء من يجرؤ علي الحلم برئاسة الجمهورية حكما بالسجن.. ولكن هناك مرشحون لديهم مؤهلات حقيقية لهذا المنصب الرفيع, والسباق يبدأ عادة بعدد كبير يتناقص ويصل في النهاية من يستحق الفوز.
وندعو الله ليل نهار ـ وأيدينا علي قلوبنا ـ أن يكون من يحصل علي أعلي الأصوات فيه مواصفات رئيس الدولة لمصر بحجمها ومكانتها وتاريخها, وأن يكون مؤهلا ـ بشخصيته وسابق خبراته وتكوينه الثقافي والسياسي لقيادة مصر في مرحلة دقيقة مليئة بالمشكلات والتحديات, وأيضا مليئة بالمخاطر والاحتمالات الظاهر منها تدهور الأمن والاقتصاد وارتفاع سقف المطالب والوقفات من جميع فئات المجتمع تقريبا, وضغوط من الأشقاء والأصدقاء والأعداء, وهذا بعض الظاهر من المشكلات والمخاطر, وما خفي كان أعظم(!).
فإذا لم يكن الرئيس القادم بتكوينه النفسي والصحي والسياسي مؤهلا لتحمل الضغوط وإدارة المعارك والتعامل مع أكثر من أزمة في وقت واحد, فسوف يكون الثمن الذي ستدفعه البلاد باهظا.
أولي مواصفات الرئيس القادم ألا يكون متشددا دينيا أو سياسيا, نريد رئيسا واسع الأفق, قادرا علي استيعاب كل التيارات ويكون مظلة يعيش تحتها الجميع دون تفرقة وبشعور كامل بالأمن والاطمئنان, فإذا جاء رئيس متشدد ـ لا قدر الله ـ يميز بين أبناء الوطن الواحد, فسوف يفقد صلاحيته كرئيس لكل المصريين, وسوف يدفع البلد إلي كوارث ندعو الله أن ينجينا منها.
البلد لا يحتاج فقيها أو داعية رئيسا للجمهورية, فلدينا ما يكفي من الفقهاء والدعاة في المساجد والمعاهد المتخصصة وفي الفضائيات وحلقات الذكر, وكلهم من أفاضل الناس, نعرف أقدارهم ومكانتهم عند الله والناس, ولكن منصب رئيس الجمهورية شئ مختلف, فهو منصب سياسي وليس منصبا دينيا, ليس مطلوبا من رئيس الجمهورية أن يصدر فتاوي تحدد لنا الحلال والحرام, فلدينا مئات يصدرون الفتاوي في كل شئ حتي في استخدام السواك.
رئيس الجمهورية يختص بشئون أخري, الحرب والسلام.. المفاوضات والمعاهدات.. إدارة العلاقات مع دول العالم.. مشروعات بناء اقتصاد يغني البلاد عن مد يدها طلبا لمعونة أو قرض.. اعلان حالة الطوارئ عند الضرورة.. سياسة للتعليم تنتج خريجين علي مستوي نظرائهم في الدول المتقدمة.. إعادة بناء منظومة الرعاية الصحية وتحسين البيئة للحد من الأمراض التي أنتشرت في الإنسان والحيوان والنبات, وإعادة بناء الثقافة الوطنية ومؤسسات للبحث العلمي الحقيقي تسهم في حركة التقدم العلمي العالمي.. ووضع مصر في مكانها الصحيح في عالم مضطرب.
وبالقطع لن يستغني هذا الرئيس ـ السياسي عن استشارة أهل العلم في شئون الدين وشئون الدنيا.. نريد رئيسا يخشي يوما يقف فيه أمام الله ويخضع فيه لحساب لا ينفعه فيه الكذب والتحايل.. لا نريد رئيسا يغرقنا بالوعود والأوهام ولا يحقق شيئا منها لتحسين نوعية الحياة للفقراء, وسكان العشوائيات والقبور, وملايين العاطلين.. نريد رئيسا واقعيا لا يعد إلا بما يقدر علي تحقيقه.. يستمع إلي صوت الشعب ولا يحصر نفسه في دائرة ضيقة من الحاشية وخدم القصر.. نريد الرئيس الذي لا يري أنه هو الأوحد الذي يمتلك الحكمة والصواب وله أن يقرر, وعلي الجميع الطاعة والتنفيذ(!).
نريد الرئيس الذي يستمع إلي المعارضين قبل أن يستمع إلي المؤيدين, ولا يسارع بإلصاق الاتهامات بكل من يخالفه.. نريده مدركا لمفهوم الدولة الحديثة.. دولة المؤسسات التي تتمتع باستقلال حقيقي.. ولا يسمح لنفسه بالاعتداء علي الدستور والقانون أو بانتهاك استقلال القضاء.. رئيسا يؤمن بأن الدولة ليست( عزبة) وليست( حوزة) والمنصب ليس غنيمة.
ندعو الله أن يرزقنا بهذا الرئيس, وليس هذا علي الله ببعيد, ونحن نستحق ذلك وأكثر.