حدود الصداقة مع أمريكا
لا شك في أن اندلاع ثورة الشعب المصري في25 يناير كان مفاجأة للسياسة الأمريكية, وهذا ما يفسر التردد ـ والتخبط ـ الذي تعاملت به مع الثورة في أيامها الأولي.. صحيح أنه كان معروفا في دوائر السياسة الأمريكية أن نظم الحكم في العالم العربي تواجه أزمات وانتفاضات تعبر بها الشعوب عن الغضب والرفض للفساد المالي.
والإخلاقي والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي الذي يخنق الشعوب وصدرت تقارير عن مراكز الأبحاث الأمريكية المؤثرة في صنع القرار أشارت إلي احتمالات اندلاع ثورات شعبية وإلي حتمية تغيير أنظمة الحكم في عدد من الدول العربية وكانت مصر من بين هذه الدول, وقد تكررت تحذيرات المثقفين إلي خطورة استمرار الجمود ورفض التغيير السلمي.
وكان لدي دوائر السياسة الأمريكية أكثر من سيناريو لما يمكن أن يسفر عنه الغضب الشعبي, وأول هذه السيناريوهات كان وصول الاسلاميين الي الحكم باعتبارهم الأكثر تنظيما والتزاما بالسمع والطاعة لقادتهم والأقدر علي التأثير علي شعوب مسلمة يسهل التأثير عليها باستخدام الدين, وكان الموقف الأمريكي ازاء هذا السيناريو هو: ليس لدينا ما يقلق من الإسلاميين, فنحن علي اتصال بهم, والسياسة الأمريكية لديها من الوسائل مايجعلها قادرة علي التعامل مع الثورات العربية وتوجيه مسارها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية في المنطقة وفي العالم, وهناك نظرية أمريكية قديمة تفضل تعامل الولايات المتحدة مع أنظمة عسكرية أو دينية, لأن التفاوض مع أي منهما يكون مع شخص واحد, بيده القرار, أما في الأنظمة الديمقراطية فإن القرار ليس في يد واحدة وبالتالي فإن التفاوض لابد أن يصل إلي قبول عدة مؤسسات,( كما في الولايات المتحدة نفسها وكما في إسرائيل), وقد قامت الإدارة الأمريكية بعدة محاولات لجس النبض خلال العام الماضي وبعدها توصلت السياسة الأمريكية غالبا إلي صيغة جديدة هي القبول بتحول ديمقراطي محدود في مصر مع ضمانات للحفاظ علي المصالح الأمريكية في المنطقة, وهي مصالح استراتيجية يمكن اعادة صياغتها ولا يمكن التنازل عنها, في هذا الإطار تمت الاتصالات مع الحزب الفائز بالأغلبية في الانتخابات وفي ضوئها أعلن حزب الأغلبية أن معاهدة السلام مع إسرائيل هي التزام دولة وليست التزام حزب( بخلاف موقفه السابق المعارض للمعاهدة ولاتفاقية الكويز وتصدير الغاز) كما أعلنوا عدم اجراء تغييرات جوهرية في الدستور والقوانين الخاصة بالتعامل مع المستثمرين الأجانب, والاندماج في العولمة الاقتصادية, وأن السياسة الاقتصادية ستظل كما كانت: الانفتاح الاقتصادي, واقتصاد السوق, وحرية الاستثمار الأجنبي, وعدم المساس بالحرية الشخصية للمواطنين والسياح, وعدم التمييز بين المواطنين علي أساس الدين.. الخ... وكان الرئيس الأمريكي قد أعلن أنه يتمني أن يدرك الإخوان أهمية مصر واستمرار سياستها الخارجية.. وكانت هذه رسالة لقيت الاستجابة علي الفور. ولكن ذلك لا يمنع وجود تيار قوي لدي المصريين يطالب بإعادة صياغة العلاقات المصرية الأمريكية علي أساس الصداقة والتعاون المتبادل والندية والمعاملة بالمثل واحترام السيادة والإرادة الوطنية, ولدي القوي الثورية اقتناع بأن السياسة الأمريكية تريد فرض التبعية بالقدر الممكن, ومهما يكن فإن السياسة المصرية بعد الثورة سوف تبتعد ـ بالقدر الممكن ـ عن بعض سياسات الولايات المتحدة في المنطقة, دون تغيير كبير في مستوي العلاقات الاستراتيجية بين البلدين, لأنه لا يمكن لإحداهما أن تستغني عن الأخري في ظل الأوضاع الاستراتيجية العالمية, وهذا ما يفسر النشاط الذي تموله الولايات المتحدة لضمان التأثير علي مسار الأحداث في مصر بحيث لا تخرج عن الحدود المقبولة أمريكيا, وهذا ما يفسر أيضا رفض الإدارة المصرية للتدخل الأمريكي السافر عن طريق تمويل وادارة بعض الجمعيات الأهلية والشخصيات العامة وهذا موضوع في يد القضاء ليقول فيه الكلمة الفصل. وصياغة العلاقات بين مصر والولايات المتحدة لا تدخل فيها معاهدة السلام مع إسرائيل, وليس خافيا علي أحد أن إلغاء هذه المعاهدة يعني العداء للولايات المتحدة حامية إسرائيل وسيؤدي إلي صعوبات نحن في غني عنها, ولا يخفي علي أحد أن الولايات المتحدة تعتبر هذه المعاهدة مسألة بالغة الأهمية للأمن القومي الأمريكي, وأن الولايات المتحدة ملتزمة بأمن إسرائيل وحمايتها, ولابد أن يوضع هذا الالتزام في أية حسابات مستقبلية وقد يكون ممكنا التفاوض علي تعديل بعض بنودها, ولكن ليست المعاهدة هي كل شئ. هناك قضايا أساسية تحتاج إلي حوار صريح مع الولايات المتحدة لإعادة التوازن إلي العلاقات بين البلدين, وهذا التوازن يتحقق باحترام الولايات المتحدة لحق مصر في السيادة واستقلال القرار, وإعادة العلاقات بين البلدين إلي مربع الصداقة والتعاون وتبادل المصالح, وهذا هو الضمان لاستمرار ونمو هذه العلاقات دون مشاكل.. ولابد أن يكون معلوما أن الوطنية المصرية لن تقبل أن تكون العلاقات إلا في هذا الإطار.