3 الأمن والاقتصاد‏‏

قضية الأمن وعلاقته بالاقتصاد وبالاستقرار الاجتماعي تحتاج إلي رؤية أشمل وأوسع من مجرد إعادة تنظيم المرور أو ضبط عدد من الخارجين علي القانون هنا أو هناك أو مناشدة المستثمرين‏.‏

القضية أن جهاز الشرطة تحمل أعباء كبيرة عندما كان أداة في يد الحكم, عندما كان النظام يفرض علي رجاله أن يظلوا واقفين في الشوارع ساعات طويلة لمواكب كبار المسئولين, وحين كانت تصدر الأوامر من القيادات العليا بالقبض علي المعارضين للنظام بصورة مهينة, أو بقمع انتفاضات الغضب الشعبي والاعتداء علي حركات الاحتجاج باستخدام أقصي درجات العنف إلي حد اعتبار هذه الاعتداءات جرائم ضد الإنسانية تدينها القوانين الدولية, وظل جهاز الأمن سنوات طويلة يتحمل نتائج فشل الإدارة السياسية وانتشار الفساد.

ومع تصاعد الغضب والاحتجاج كانت تصدر الأوامر لرجال الأمن بتصعيد العنف والقمع حتي أصبح جهاز الأمن موضع غضب شعبي ولم يعد يجد التعاون من الناس, بل حدث العكس فلم يعد جهاز الشرطة في نظر المواطنين في خدمة الشعب وازدادت الفجوة بينه وبين الشعب, وهذا ما أدي به إلي الفشل في أداء واجباته الدستورية والقانونية, وحدث ما حدث من انفلات أمني, وانسحاب الشرطة, ولم يكن جهاز الشرطة إلا أداة في يد السلطة الحاكمة, ولم يكن يتصرف وحده, أو بناء علي عقيدة معادية للشعب, وهذه الحقيقة أدركها الشباب وهي أن النظام لم تعد له شرعية, لأن شرعية أي نظام للحكم تتوقف علي مدي احترامه الدستور والقانون وحقوق الإنسان وخضوع الدولة للقانون وعدم التمييز بين المواطنين.

وعلماء الاجتماع والقانون مجمعون علي ضرورة إعادة تنظيم أجهزة الشرطة. وفي دراسة الدكتورة سهير عبدالمنعم أستاذ القانون أن الثورة لن تحقق أهدافها إلا إذا أعيد تنظيم جهاز الشرطة بحيث يتحقق فعلا ما نصت عليه الدساتير المصرية وآخرها الإعلان الدستوري من استقلال مؤسسة الشرطة لتكون ملكا للشعب ـ وليس للحاكم ـ علي غرار النص الخاص بالقوات المسلحة, وفي البلاد المتقدمة تكون الشرطة مستقلة عن السلطة التنفيذية ولا تخضع إلا للقانون ولا تسمح بأي تدخل سياسي في عملها, ففي بريطانيا جهاز الشرطة له استقلالية, وفي فرنسا تتبع الشرطة القضائية لإشراف النائب العام وليس لوزير الداخلية.

والأزمة بين الشرطة والشعب سببها استمرار حالة الطوارئ لعشرات السنين, مع أنها في الأصل شرعت للظروف الاستثنائية ولمواجهة مخاطر حقيقية تهدد الدولة, لأن هذا القانون يعطل الضمانات الخاصة بالحقوق والحريات, ويعطي للشرطة الحق في القبض علي الأشخاص واعتقالهم, ويعطي لرئيس الدولة سلطة تعيين قضاة محاكم أمن الدولة, ولا يسمح بالطعن في أحكام هذه المحاكم, ولا تكون أحكامها نهائية إلا بعد التصديق عليها من رئيس الجمهورية, وفقهاء القانون مجمعون علي أن محاكم أمن الدولة( طوارئ) قضاء استثنائي يمثل الإخلال بمبدأ المساواة وبدولة القانون, واستمرار هذا القضاء الاستثنائي لعشرات السنين يؤدي حتما إلي الإقلال من هيبة الدولة, وأيضا يسيء إلي الشرطة لأنه يفرض عليها تنفيذ ما يصدر إليها من أوامر باستخدام القوة المفرطة, والتعذيب, والقتل أيضا, وهذا ما أدي إلي ابتعاد بعض رجال الشرطة عن المهنية, وإلي التعسف في استخدام سلطاتهم, فهم ضحايا أيضا ما دامت طبيعة العمل في الشرطة قائمة علي المركزية المطلقة, وتسلسل القيادة حتي تصل إلي رئيسها الأعلي وهو رئيس الجمهورية, وتؤدي عملها بقيادة وزير الداخلية.

والغريب أن مؤتمرا عقد في أكاديمية الشرطة عام2000 ـ أي منذ أحد عشر عاما ـ كان موضوعه الشرطة العصرية وصدر عنه ما سمي الاستراتيجية الأمنية لدخول القرن الحادي والعشرين بدأت بالنص علي أن الأمن يبدأ من الجماهير ولا ينجح إلا بها, وأن المشاركة الشعبية هي ركيزة الأمن كما أنها ركيزة الديمقراطية, وهي الضمان لمنع الجريمة وكشف المجرمين والفاسدين, ولكن هذه الاستراتيجية ـ كغيرها ـ كانت حبرا علي ورق!

ومن الملاحظات المهمة للدكتورة سهير عبدالمنعم أن رجل الشرطة يتعامل مع الجماهير مباشرة وتصدر إليه الأوامر التي تلزمه بتحقيق نتائج معينة مثل فض حشود الثوار بالقوة دون إدراك القيادة التي تصدر الأمر أن هذه ثورة يستحيل قمعها مهما استخدمت الشرطة أقصي درجات العنف, ومن هنا ازدادت أزمة الشرطة, والحل أن تعود إلي التعامل مع الشعب باحترام.

أما الهيكل التنظيمي لوزارة الداخلية فهو الذي يحتاج إلي وقفة شجاعة لإعادة بنائه من جديد.


 


 


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف