متي تعرف الحكومة طريقها

التردد وعدم الحسم كانا من سمات حكومة الدكتور عصام شرف طوال الأشهر الماضية‏,‏ وكنا نغفر لها ذلك علي أساس أن بعض وزرائها حديث عهد بالحكم ويحتاج وقتا لالتقاط أنفاسه والتعرف علي الممكن والمستحيل‏.

, ووزراء آخرون سبق أن شاركوا في وضع سياسات النظام السابق التي اشعلت الغضب الشعبي وأدت الي قيام الثورة, وهؤلاء من المحتمل أن يكونوا( الفرملة) التي تعوق الانطلاق.

لكن المشكلة الأكبر هي أن هذه الحكومة اعتبرت نفسها حكومة تسيير أعمال,او مجرد حكومة انتقالية ومؤقتة, وبالتالي فكل دورها ينحصر في اطفاء الحرائق وادارة كل يوم ليمر علي خير, دون أن تشغل نفسها بالتفكير في المستقبل القريب والبعيد او بالاتفاق علي استراتيجية للعمل الوطني.. استراتيجية تحدد هوية الاقتصاد وكيفية التعامل مع المطالب الجماهيرية وهي ـ بالمناسبة ـ ليست مطالب فئوية جامحة وانما هي استحقاقات لابد من الوفاء بها اليوم او غدا لكي يعتدل ميزان العدل الاجتماعي الذي تحول الي أغنية نرددها ونريد أن يقتنع الناس بأن تكرار ترديدها يكفي لاقناع أصحاب الحقوق بالصبر والصمت بينما تقضي الحكمة حماية الآمال والطموحات من الخروج عن سياقها بسبب التشتت وغياب القيادة الثورية.

وامام الانفلات الأمني والاعلامي كانت الحكومة وكأنها لاتعرف ماذا عليها أن تعمل, وامام ظاهرة العنف والعدوانية التي انتشرت تكتفي بإحالة أمرها الي الشرطة والجيش, مع أن هذه الظاهرة في جزء كبير منها سببه التلكؤ والبطء في اتخاذ القرار والبطء الشديد في التنفيذ مما يثير الشكوك ويزيد المشاعر السلبية, ونتج عن ذلك أن كل من له حق لا يثق في الوعود ويجد أنه لايستطيع الحصول علي حقه إلا بيده, بالمظاهرات والاعتصامات, او بالتهديد, او بالتخريب, وأيضا تترك الحكومة الأمر كله للشرطة والجيش, مع أن كل مشكلة هي مشكلة سياسة ــ اجتماعية في المقام الأول تولدت عنها مشكلة أمنية, والمفروض الاسراع بمعالجة الأسباب وليس معالجة النتائج او اللجوء الي المسكنات!

هكذا الحال في جميع مظاهر التوتر والقلق التي يستغلها المغرضون للإساءة الي الثورة وتحميلها بالسيئات التي لم تتسبب فيها. وجوهر المشكلة أن الادارة السياسية لم تعرف أن هذه ثورة ولكن تعاملت علي أنها انتفاضة لتغيير القيادات السياسية وتحقيق بعض المطالب الشعبية, وبذلك تعود الأمور الي ما كانت عليه. ولو كانت الادارة السياسية تتعامل مع المواقف بمفهوم الثورة لما وصلنا بعد تسعة أشهر دون أن يحدث تغيير سياسي واقتصادي واعلامي جوهري وعميق يعبر عن مفهوم الثورة, ولم تتخذ اجراءات جادة لمعالجة العلاقة بين الشرطة والشعب بما يحقق الكرامة والعدالة والقانون لكلا الطرفين. وقد نبهنا كثيرون الي أن التناقض في الاعلام أحد أسباب العنف, وأن من اسباب القلق والعنف في المجتمع عدم وجود هدف واضح ومحدد تلتف حوله الجماهير, واقتصار الجميع علي الحديث عن الماضي مع الخوف من المستقبل, والسؤال علي كل لسان:( إحنا رايحين فين؟).. وليس غريبا أن يتفق مثقفون كبار مع هذا الرأي ويعبرون عن خوفهم من أن الأحداث العظيمة التي جرت في يناير وبعده يمكن أن تنتهي الي لاشيء نتيجة الشعور السائد بالاحباط بعد الشعور بالأمل الذي كان يملأ ارجاء البلاد. وهذا الاحباط سببه غياب الهدف وغياب المبادرة التي تشعر الناس بأن الثورة ماضية في طريقها دون انحراف.

وكمثال علي غياب الاستراتيجية ووحدة الفكر أعلن وزير في الحكومة صراحة أن اتباع الحكومة سياسة اقتصاد السوق الحرة لايحقق العدالة والكفاءة فضلا عن أنها تسببت فيما نحن فيه الآن. ووجه الوزير وجه النقد لحكومته لأنها لاتراعي المواءمة مع مقتضيات المرحلة الراهنة, كما وجه النقد الي حكومته بأنها وضعت استمالة الخارج علي حساب اصلاح الداخل وأعلن أن ذلك خطأ كبير وخلل يتسبب في حدوث مشكلة كبيرة في الانتقال من المرحلة الحالية الي المرحلة المقبلة, والخطأ الآخر ـ كما قال ـ هو عدم مراجعة السياسة المالية لتحقيق العدالة في الضرائب والرسوم الجمركية والاستثمار والسياسة التجارية, وعدم اتخاذ اجراءات احترازية, وضوابط للاستيراد لتحقيق هذه العدالة الاجتماعية التي نتحدث عنها.. وقد فهمت من ذلك أن الوزير يعلن أن الحكومة لم تعمل ما يجب عليها عمله لتحقيق العدل الاجتماعي الذي هو هدف الثورة.

وليس غريبا أن يكون لوزير آخر في نفس الحكومة رأي آخر دافع فيه عن السوق الحرة واكتفي بتسميتها اقتصاد السوق علي طريقة الرجل الذي كان اسمه أحمد وأراد أن يغيره الي الحاج أحمد, وتصور أنه أصبح شخصا آخر! وأعلن هذا الوزير رقما مخيفا هو أننا ندفع سنويا35 مليون دولار فوائد الديون ـ بخلاف اقساط الديون نفسها ـ مما يعني أننا امام أزمة كبيرة تعمل الحكومة علي تأجيل انفجارها يوما بيوم, بينما الحل يتلخص في الاتفاق علي أن هذه ثورة, واجراءاتها يجب أن تكون اجراءات ثورية, وفق استراتيجية تعبر عن الآمال التي تفجرت في ثورة يناير.. وهذه مهمة لاتحتمل التأجيل وعدم التوصل اليها يعني التردد والتخبط والعشوائية!!


 


 


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف