فى يوم ميـــلاد الزعيـم

فى يوم 15 يناير مرت ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر وفى 28 سبتمبر الماضى كانت ذكرى رحيله فى سنة 1970- وقد مرت 42 عاما على غيابه ولا يزال حاضرا.. صوره مرفوعة فى كل بلد عربى.. اسمه يتردد ويستدعى فى النفوس الشعور بالعزة والكرامة وقوة الإرادة.
فى هذا اليوم عادت إلى الذاكرة صور وأحداث لمعارك عبد الناصر من أجل استقلال الإرادة الوطنية، ولتحقيق العدل الاجتماعى بإنصاف الفقراء ورعايتهم، وبالوقوف فى وجه الاستعمار فى الخارج، والاستغلال فى الداخل.. وعادت حكايات تستحق أن يرويها الآباء لأبنائهم ليعرفوا أن بلدهم انجب زعماء.. عرابى.. ومصطفى كامل.. ومحمد فريد.. وسعد زغلول.. وجمال عبد الناصر.. وهكذا، بعض القادة لا يموتون، وحين بدأ عبد الناصر قيادته للأمة كان المجتمع المصرى، والمجتمع العربى فى حالة من الركود أشبه بالموت.. وكان الجميع فى انتظار من يوقظ هذا المجتمع ويعيد إليه الأمل والثقة بالنفس.. وفى فلسفة الثورة حكى عبد الناصر عن إيمانه بأن القدر اختاره ليقوم بدور تاريخى فى خدمة بلده فقال: «هنالك دور يبحث عن بطل».. ومن حسن الحظ أن صدرت سلسلة كتب تضم جميع خطب وأحاديث عبد الناصر، قامت بجمعها د. هدى عبد الناصر وبذلت فى ذلك مجهودا كبيرا، لأن هذه الخطب والأحاديث كانت موزعة ومبعثرة فى مواقع كثيرة ولم تقم أية جهة بمجهود لجمعها وتحليلها لتكون مرجعا للباحثين فى السياسة والتاريخ، ولتكون مصدرا للتثقيف السياسى أيضا. وأول ما نلاحظه فى هذه الخطب والاحاديث البساطة فى التعبير عن المواقف والمبادئ السياسية بأسلوب من القلب فيه نبرة الصدق، ولذلك كان يصل مباشرة إلى قلوب البسطاء والمثقفين على السواء.. لم يكن عبد الناصر مجرد رئيس، ولكنه زعيم.. لديه رؤية للمستقبل.. لديه حلم لمصر وللعالم العربى.. لديه قضية عاش لها، ومستعد للتضحية بحياته من أجلها، وقد تطور فكره وتطورت حركته بحيث يمكن أن نلاحظ أنه قاد ثورتين وليس ثورة واحدة.. ثورة وطنية ضد الاستعمار الأجنبى وضد التبعية والخضوع للقوى الكبرى وهدفها تحقيق الاستقلال السياسى والاقتصادى وتصفية الإقطاع الموالى للاستعمار، والثورة الثانية كانت ثورة اجتماعية لتحقيق تكافؤ الفرص والمساواة وإنصاف الطبقات الفقيرة، وكل ثورة كانت تعتمد على القوى الاجتماعية والتنظيم السياسى الملائم لها.
مات عبد الناصر بعد أن ظل يحكم مصر 18 عاما ويسكن فى بيت لا يملكه ولا يملك الأثاث الذى يستعمله هو وأسرته، فكل ذلك كان ملك الأشغال العسكرية، ولم يملك أسطول سيارات، ولكنه ظل محتفظا بالسيارة «أوستن» التى اشتراها قبل الثورة وجمع ثمنها من مدخراته من مرتبه بعد أن وصل إلى رتبة بكباشى، وساهمت زوجته معه بمبلغ من ميراثها من أبيها. مات ولم يترك قصورا أو أراضى زراعية أو حسابات فى البنوك، وكان مدينا لبنك مصر بمبلغ 16 ألف جنيه كان يسددها على أقساط، وحصل عليها من البنك لتكاليف زواج ابنتيه هدى ومنى.. كان يرتدى البدل من صوف المحلة.. والبيجامات من كستور المحلة.. وطعامه كما كان يحب وتعود عليه من الصغر.. خضار وأرز وقطعة لحم أو ربع فرخة.. ويوم فى الأسبوع بدون لحوم لكى يتعود الأولاد على الحياة من بعده، وكان يمنع أولاده من ذكر صلتهم به للغرباء.. وعاشت زوجته مجرد زوجة وأم وست بيت.
بعد موته أراد خصومه تشويه سيرته.. قالوا إنه كانت له حسابات سرية فى سويسرا ولكن محمد غانم أحد أشهر رجال المخابرات المصرية وكان مسئولا عن كثير من العمليات السرية للمخابرات أدلى بحديث للصحف قال فيه إن هذه المبالغ كانت لحساب شركة النصر للتصدير والاستيراد فى جنيف، ولكن الإذاعة الإسرائيلية أذاعت أن هذا الحساب باسم عبد الناصر والتقط البعض فى مصر الطعم من الإذاعة الإسرائيلية وأعادوا نشره فى مصر، ولكن خصوم عبد الناصر لم يسكتوا فادعوا أن عبد الناصر استولى لنفسه على التبرعات التى قدمها الشعب لإزالة آثار العدوان، وأعلن البنك المركزى أن هذه التبرعات كانت تقدم مباشرة للبنوك وكلها مودعة لحساب إزالة آثار العدوان.
كان عبد الناصر نصيرا للفقراء حتى إن خصومه اتهموه بالحقد علىالأغنياء لأن سياسته كانت لصالح الفقراء، وذلك لأنه كان يرى أن الغنى الفاحش فى وسط الفقر المدقع جريمة لا تغتفر ولهذا كان يعمل على إزالة الفوارق بين الطبقات، وكان رأيه أن الحاكم فى مصر لا يجوز أن يمتلك لأنه بذلك يفقد قدرته على العمل لتحقيق مصالح الأغلبية ويجد نفسه يعبر عن مصالح الأقلية.
حين مات كانت ابنته هدى تعمل فى سكرتاريته بمرتب 36 جنيها واختار ألا يكون لها عمل فى أى مكان حتى لا تقع فى حبائل من يغرقونها بالأموال والهدايا وكان زوجها يعمل بمرتب 100 جنيه فى الشهر ولم يفكر فى مستقبل أولاده.. كانت ابنته الثانية منى تعمل فى دار المعارف بمرتب قدره 30 جنيها فى الشهر وزوجها كان مرتبه فى ذلك الوقت 32 جنيها فى الشهر.
وحقيقة فإن تجربة عبد الناصر فيها ما يستحق النقد مثل كل تجربة إنسانية ضخمة وفيها ما يستحق الشعور بالفخر.. وهل كان سهلاً أن يخوض معارك إخراج الملك وإعلان الجمهورية، وتحديد الملكية الزراعية وإعادة توزيع الأرض على الفلاحين المعدومين، وإخراج الإنجليز مرتين مرة بحرب هاجمتنا فيها إنجلترا وفرنسا وإسرائيل سنة 1956، وقبلها بجلاء الاحتلال البريطانى الذى كتم على أنفاس البلاد والعباد سبعين عاما، ومعركة باندونج وسياسة عدم الانحياز، ومساندة ثورة الجزائر ودول الخليج وبناء السد العالى وخطة التصنيع، والسجل ملىء بالمعارك والإنجازات فى الداخل والخارج، وملىء أيضا بالمؤامرات من الداخل والخارج وآخرها هزيمة 67.
كانت حياة عبد الناصر - كما قال أحمد بهاء الدين - صراعا مريرا، وكان محفوفا بالمخاطر محاطا بالمتآمرين الكبار والصغار.. وظل مرفوع الرأس ينادى شعبه: ارفع رأسك يا أخى، لقد مضى عهد الاستعمار. واختزن الضمير المصرى هذه الصيحة إلى أن اهتز ميدان التحرير فى ثورة 25 يناير بصيحات الشباب: ارفع رأسك فوق أنت مصرى.. وكانت صورته أيضا مرفوعة فى الميدان.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف