لأن ثقافة الاستهلاك حلت محل ثقافة الانتاج أصبح المستقبل رهنا بمدي القدرة علي اعادة الاتزان والتوازن الي المجتمع. وسنجد من يعارض ذلك من المستفيدين الذين يحققون ثرواتهم بالايقاع بمحدودي الدخل عن طريق خلق الشعور بالاحتياج لاقتناء سلع ليست من الضروريات.
ومعلوم أن الشركات العملاقة تخصص عشرات الملايين للانفاق علي الاعلان والتسويق ووسائل التأثير, واضفاء قيمة رمزية علي السلع الكمالية, وعلي الجانب الاخر ليس هناك أي جهد من البيت أو المدرسة أو مؤسسات الإعلام والثقافة والارشاد الديني لتعليم الناس أن يكون استهلاكهم بقدر احتياجاتهم وقدراتهم المالية دون اسراف يؤدي الي زيادة الاستيراد والضغط علي موارد الدولة وزيادة الأعباء علي المواطن, وتكوين رأي عام يرفض التقليد الأعمي, واقناع الناس بقيم الانتاج والادخار والمشاركة في الاستثمار علي انها الأساس للتنمية وخلق فرص عمل حقيقي وتحسين المعيشة ونهضة المجتمع ككل.. وليس هناك أي جهد لتنمية الوعي لدي المواطن بالآثار السلبية لزيادة الاستهلاك علي حياته وحياة أسرته, وغرس القدرة علي ضبط النفس وعدم الانسياق لمغريات الاستهلاك التي تفوق قدرته.
والادعاء بأن زيادة الاستهلاك للسلع الكمالية واشتراكات التليفون المحمول دليل علي تحسين معيشة المواطنين ادعاء باطل, وكدليل علي ذلك ما نراه في احدي الفضائيات المصرية في برنامج اسبوعي لرجال ونساء من الفقراء وقعوا في شراك الثقافة الاستهلاكية السائدة وقاموا بشراء سلع كمالية ووقعوا علي ايصالات أمانة بقيمة هذه السلع واستسهلوا الحصول عليها دون أن يدفعوا الثمن, ولما عجزوا عن السداد حكم عليها قضائيا بالسجن, ويبذل الاستاذ عمرو الليثي صاحب البرنامج جهدا كبيرا لجمع تبرعات لسداد مديونيات لتخليصهم من السجن, وهكذا تبدوا القضية مؤثرة علي حياة واستقرار وأمان كثير من المصريين, كما أنها معوقة للتنمية الحقيقية التي تعتمد علي زيادة الانتاج.
ومثال اخر انتشار التليفون المحمول(40 مليون مشترك كما يقال) واستخدامه لمجرد التباهي ومعظم من يملكونه يقتطعون تكلفته من احتياجاتهم واحتياجات أسرهم الضرورية.
ويرصد تقرير المجالس القومية التوسع في استيراد السلع الكمالية واستغلال شريحة رأسمالية للانفتاح للتوسع في الأنشطة الطفيلية( السمسرة ـ المضاربة في الاراضي والعقارات ـ التهريب ـ الواسطة ـ التخليص) وتحقق ثقافة الاستهلاك مصالحها, ولذلك فهي تدعم هذه الثقافة بالاضافة الي دعم الشركات العالمية الكبري لوكلائها المحليين لتحويل الحملات الإعلامية والإعلانية وتجنيد بعض الإعلاميين للمساهمة في تشكيل العقول وأذواق الناس واغرائهم وزيادة تطلعاتهم.
ترشيد الاستهلاك اذن وزيادة الادخار من ضرورات التنمية في ظروف المجتمع المصري وليس صحيحا ما يقال من أن ترشيد الاستهلاك من الأمور المتعلقة بالحرية الشخصية واقتناع كل واحد, علي أن الاستهلاك سلوك فردي والحقيقة أن سلوك الفرد هو سلوك اجتماعي نتاج الثقافة الاجتماعية السائدة, ويتأثر بالسياسة العامة للانتاج والاستيراد والاستثمار والادخار, ولا يمكن ان نطلب من الفرد ترشيد استهلاك وادخار جزء من دخله لتوظيفه في مشروعات التنمية بينما يتم اغراق الاسواق بجميع انواع التليفونات المحمولة والسيارات والبلاي ستيشن وبالتفاح من عدة دول وحتي بالفوانيس المستوردة ومئات السلع الاستهلاكية الأخري, فكم عدد القادرين علي ضبط النفس أمام هذه المغريات, وكيف يحمي المواطن نفسه من تأثير الاعلانات وسحر النساء فيها ثم يتذكر المصلحة القومية, وكيف نطلب من المواطن ان يعيش في مجتمع غير المجتمع الذي يشاهد فيه النهم والسفه الاستهلاكي من الطبقات الجديدة من أغنياء الانفتاح.. وفي الوقت الذي يترك فيه الاستيراد( سداح مداح) بحجة اتفاقية التجارة الدولية بينما نملك اليات للضبط تستخدمها حتي الدول الكبري.
ومن الخطأ وضع قضية ترشيد الاستهلاك علي انها قضية اقتصادية فقط والحقيقة انها قضية اجتماعية ولها انعكاسات علي مانشكو منه من ظواهر الانحراف والجريمة.
هذه قضايا أظن انه آن الأوان للحوار حولها وان يشترك في الحوار مع الخبراء الاقتصاديين الخبراء الاجتماعيون وعلماء السياسة وقادة الأحزاب والإعلاميين وقيادات الدعوة الدينية.. القضية مجتمعية وليست قضية يمكن تركها للزمن.. لان الزمن ليس لصالحنا مع التقدم الذي تحققه دول كانت متخلفة وأصبحت متقدمة.. كيف.. هذا هو السؤال الذي يمكن الحصول علي اجابته من تجارب هذه الدول.