مــــع نجيـب محفوظ

كانت لدى نجيب محفوظ موهبة خاصة جدا، كان له معارف كثيرون جدا، عشرات، بل مئات، وبموهبته كان يجعل كل واحد يعرفه يشعر أنه صديقه المقرب، والحقيقة أن أصدقاءه الحقيقيين لم يكن عددهم يزيد على عدد أصابع اليد الواحدة.. وكان محمد سلماوى من هؤلاء، بل كان فى مقدمة هؤلاء، فقد لازمه لمدة 12 عاما وكان يلتقى به فى منزله كل يوم سبت فى تمام الساعة السادسة مساء ليجرى معه الحوار الأسبوعى الذى كان ينشر صباح الخميس فى «الأهرام».
وعندما حصل على جائزة نوبل كان محمد سلماوى هو ممثله فى الاحتفال الرسمى عام 1988 وتسلم الجائزة من ملك السويد وألقى الخطاب الذى أعده نجيب محفوظ لهذه المناسبة.
ومعروف أن محمد سلماوى كان يتلقى طلبات من بعض الشخصيات العربية والأجنبية لمقابلة الأديب الكبير، وحضر سلماوى لقاءات نجيب محفوظ مع كبار الكتَّاب والأدباء من أنحاء العالم، كما كان يتولى مراسلاته الدولية، ولهذا كان يلقبه مازحا «وزير الخارجية». ويذكر محمد سلماوى لقاء البرازيلى باولو كويللو وهو من أكبر الأدباء العالميين، الذى انحنى على يد نجيب محفوظ وقبّلها وهو يقول: علىّ أن أقبّل هذه اليد التى كتبت لنا بعض أعظم روائع الأدب الإنسانى المعاصر. وعندما التقى نجيب محفوظ بالسكرتير الدائم للأكاديمية السويدية التى تختار الفائز بجائزة نوبل سنويًا بدأ محفوظ بشكر الأكاديمية لمنحه الجائزة ورد عليه السكرتير العام قائلا: «بل نحن الذين نشكرك على قبولك الجائزة لأنك بذلك صححت وضعا كان خاطئا». وأضاف: «لقد تمكنت من خلال فنك الروائى العظيم أن ترصد كل التحولات الاجتماعية والسياسية وأن تتفاعل معها، بل تستشرف آفاق المستقبل، أما من الناحية الفنية فإن الفن الروائى العربى أصبح مرادفا لاسم نجيب محفوظ، فأنت الذى أعطيت الرواية شكلها العربى المميز وأثرت فى أجيال من الروائيين العرب، وقطعت بأعمالك الأدبية مسافة طويلة من الواقعية النفسية إلى الميتافيزيقية الرمزية مرورا بأساليب وأشكال متعددة عالجت من خلالها موضوعات وجودية كبيرة كالصراع بين العقل والعقيدة، والحب كمصدر للقوة، والصراع الوجودى للإنسان الأعزل». وسأل الضيف: لماذا تكتب؟ وكانت إجابة نجيب محفوظ: «إننى أجد سعادتى فى الكتابة، فهى بالنسبة لى ليست وظيفة أتكسب منها، إنما هى مهنتى التى أحيا من أجلها.. فقد كنت أجد سعادتى فى الكتابة ذاتها وليس فيما يمكن أن تأتى به، لذلك ظللت أكتب بلا مقابل لسنوات، وأتمنى أن أستمر فى الكتابة حتى آخر أيامى، فأنا لا أتصور أن أحرم من تلك المتعة التى لا حياة لى بدونها».
***
وعندما التقت به نادين جورديمر كاتبة جنوب أفريقيا البيضاء الحائزة على جائزة نوبل اعترف نجيب محفوظ بأنه أصيب باكتئاب فى بداية الخمسينيات وانه انتهى من كتابة «الثلاثية» وشعر بعدها أنه لم يعد لديه ما يقوله، وحاول كثيرًا أن يكتب ولكنه لم يجد شيئًا يكتبه فاتجه إلى السينما ثم بعدما يقرب من ست سنوات وجد نفسه فجأة يكتب رواية جديدة، هى «أولاد حارتنا» التى صدرت عام 1959، وبعدها كتب عشرات الروايات والقصص. واعترف أيضًا بأن رغبته فى الكتابة مازالت مستمرة وهو فى الثالثة والتسعين، وإن كانت قدرته على الإمساك بالقلم قلت بعد أن أصيبت يده اليمنى بطعنة الرجل الغبى الذى حاول قتله، وأيضًا ضعف نظره، فلم يكن يتبين بالدقة ما تخطه يده، فتحايل على ذلك بالإملاء.
أما الكاتب البرازيلى العالمى باولو كويللو فقال لنجيب محفوظ «لقد غزت كتبك نفسى بلا مقاومة، فكلما قرأت أحد أعمالك وجدت فى نفسى استسلاما كاملا لها، بينما أجدنى كثيرًا ما أقاوم بعض الكتب الأخرى حين أقرأها». وقد توقفت عند إجابة نجيب محفوظ حين سأله باولو كويللو: لماذا لم تكتب سيرتك الذاتية؟ فأجاب: لأنها ليس فيها ما يهم أحدا! توقفت لأن حياة نجيب محفوظ فيها أحداث وأسرار كثيرة شخصية وعائلية ومرتبطة بالحياة الاجتماعية والسياسية فى مصر لأكثر من تسعين عاما، وأعتقد أن سبب عدم كتابته لسيرته الذاتية يرجع إلى طبيعته، فهو كتوم، يخفى كل ما يتعلق بحياته الشخصية، ويكفى مثالا على ذلك أنه ظل سنوات طويلة يدعى أنه لم يتزوج لأنه مشغول بتزويج أخواته البنات ثم اكتشفنا بعد ذلك أنه متزوج وأنجب بنتين، ونذكر أنه عاش سنوات طويلة دون أن يعرف أحد عنوان سكنه على الرغم من أنه كان دائم اللقاء مع أصدقائه الكثيرين.
***
«ليس هناك ما يقال للشباب غير الاعتذار، إننا لم نوف الشباب حقهم حتى يصبح بإمكاننا اليوم أن ننصحهم، لقد قدمنا لهم تعليما بائسا وإعلاما حكوميا ساذجا، وبعد طول معاناة مع التعليم والتنشئة أخرجناهم إلى حياة البطالة القاسية.. فماذا تريدنى بعد ذلك أن أقول لهم، أن اصبروا؟! إنى أخجل من ذلك» هذه الكلمات الصادمة المعبرة عن الجريمة التى ارتكبت فى حق الشباب جعلتنى أهتز.. وقلت: هذه هى عظمة العباقرة.. كأن نجيب محفوظ كان يتنبأ بثورة الشباب فى 25 يناير.. ولو كان حيا لكتب لنا رواية تخلد هذا الحدث العظيم.
أنصحك أن تقرأ كتاب محمد سلماوى «مع نجيب محفوظ» فقد قدمت لك منه القليل، وهو كنز ثقافى ستجد فيه المتعة والفائدة فى صحبة عملاق الأدب الذى مازال يحدثنا ويؤثر فى عقولنا ومشاعرنا.. وسيبقى كذلك.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف