بعد ثورة 25 يناير يجب أن تتغير ثقافة المجتمع المصري من ثقافة الاستهلاك الي ثقافة الإنتاج لأن ثقافة الاستهلاك تناسب مجتمعات الوفرة حيث الدخول مرتفعة
والانتاج كبير, والعرض أكبر من الطلب الحقيقي, ويحتاج تنشيط الاقتصاد إلي إغراء الناس بكل الوسائل علي الشراء والاستهلاك للسلع والخدمات بأكثر من احتياجاتهم والأمر مختلف في مجتمع مثل مجتمعنا.
مجتمعنا ليس مجتمع وفرة, بل هو من مجتمعات الندرة, العرض أقل من الطلب, والانتاج لا يكفي الاحتياجات الضرورية حتي من الغذاء والدواء, ونتيجة لذلك تظهر الأزمات وترتفع الأسعار, ويظهر الاحتكار والإثراء غير المشروع عن طريق التحكم في السوق من المنتجين والمستوردين والتجار.
في مجتمعات الوفرة تدعو طبيعة النظام الاقتصادي إلي دفع الناس إلي إلقاء ما لديهم وشراء الجديد, وتوجد الاعلانات والعروض لديهم الاحتياج لشراء أشياء ليست من الضرورات وتفوق قدرتهم المالية, وتيسر لهم الاقتراض من البنوك بفوائد تزيد من أعبائهم, وتغريهم علي استخدام بطاقات الائتمان لكي يشتروا دون أن يشعروا ـ سيكولوجيا ـ بأنهم يدفعون الثمن.
في مجتمعات الوفرة الإعلانات تدق علي الرؤوس صباح مساء بأحدث وسائل التكنولوجيا وباستخدام أحدث النظريات العلمية للضغط علي الناس وإشعارهم بالنقص وبالحرمان اذا لم يبادروا بالشراء واقتناء هذه السلعة أو تلك. والإغراء بالتقسيط يسهل الاندفاع الي شراء بما يفوق القدرة علي السداد, وفي النهاية يكون استهلاك الفرد والأسرة أكبر من الاحتياج ومن القدرة المالية, ويتعمق لدي الفرد شعور دائم بالحرمان اذا لم يحصل علي هذه السلع, ويؤلمه الا يكون لديه ما لدي سائر الناس, وهكذا يتولد شعور بالاحتياج الي الحصول علي سلع وخدمات غير ضروررية ويمكن أن تكون حياة هذا الفرد أفضل إذا استطاع الاستغناء عنها.. ولكن ثقافة الاستهلاك صناعة قوية جدا, تديرها الرأسمالية العالمية والمحلية وهي تملك وسائل وأساليب لترويجها يصعب علي الفرد العادي مقاومتها.
ولديها أسلحة فائقة القدرة في علم التسويق الحديث وأساليب الضغط النفسي علي الصغار والكبار وتحريك غريزة التملك بصرف النظر عن القدرة. وفي النهاية هي ثقافة تخدم الرأسمالية العالمية والمحلية وتزيد من ثراء الأثرياء ومشاكل ذوي الدخل المحدود.
ومعروف أن في العالم اليوم خمس دول هي: الولايات المتحدة, واليابان, وألمانيا, وفرنسا, فيها 172 شركة من 200 شركة عملاقة في العالم عابرة الحدود تسيطر علي قطاع كبير من الاقتصاد العالمي وراءها سياسات هذه الدول الكبري, وإنتاجها يتدفق في أسواق الدول النامية, وإنتاجها الكبير, وأرباحها الهائلة, وراء العولمة التي جعلت أسواق الدول النامية مفتوحة وسمحت لها باستخدام جميع الأسلحة والوسائل المشروعة وغير المشروعة ابتداء من الضغط السياسي والاقتصادي علي الدول لفتح أسواقها دون قيود, وتنفيذ نظم للانتاج والادخار والاستهلاك في هذه الدول تخدم مصالح هذه الشركات العملاقة, مع استخدام أساليب الاغراء بفنون الاعلام والاعلان وتكنولوجيا الاتصال للترويج لثقافة الاستهلاك, ولتفضيل المنتجات المستوردة علي المنتجات المحلية إن وجدت.
ويحذرنا تقرير للمجالس القومية من نمط الاقتصاد الذي كان سائدا قبل الثورة وكانت نتيجته رواجا اقتصاديا لفترة محدودة وبدون قاعدة إنتاجية قادرة علي الحفاظ علي هذا الرواج علي أسس سليمة.
وقد ظهر هذا النوع من الاقتصاد في ظل العولمة التي تجعل رؤوس الأمو الأجنبية تتدفق لفتح الأسواق وتحقيق أرباح أكبر من الأرباح التي تحققها في بلادها خاصة مع تشبع أسواق الدول الكبري بالسلع الضرورية والكمالية, ويساعد أيضا علي ظهور هذا الاقتصاد انتشار المضاربة في الأراضي والعقارات وظهور أنشطة ليست لها قاعدة انتاجية ويطلق الخبراء علي هذا الاقتصاد اقتصاد الكازينو لأنه يحقق لبعض المغامرين أرباحا كبيرة من أعمال أقرب إلي المقامرة يؤدي حتما ـ بعد فترة من الرواج الزائف ـ الي أزمات مالية نتيجة انتقال المغامرين المحليين أيضا بأرباحهم من الداخل لاستثمارها في الخارج بدعوي الالتحاق بالسوق العالمية, ومع الوقت تختفي الأنشطة الاقتصادية والانتاجية الحقيقية, ولا تظهر آثار الانهيار الاقتصادي كاملة الا بعد فترة من الزمن.
الحالة التي كنا نعيشها كانت حالة انفصام أو ازدواجية, ففي الوقت الذي تظهر فيه الأزمة المالية والاقتصادية العالمية والمحلية, وتعاني السوق من الركود وقلة السيولة لدي الملايين, كان النظام الاقتصادي يشجع علي الانفاق علي سلع غير ضرورية, وكنا نستهلك أكثر مما ننتج, ونستورد أكثر مما نصدر, وتدق الاعلانات ووسائل الاغراء علي رؤوس محدودي الدخل ومحدودي الوعي ومحدودي القدرة علي التحكم في سلوكهم ورغباتهم, ويقع المواطن في الدائرة الملعونة, دائرة التفاخر بكثرة الاستهلاك والانفاق والاحساس بلزوم ما لا يلزم.. والنتيجة العجز المزمن في ميزان المدفوعات.
بعد الثورة لابد من نظام اقتصادي جديد قائم علي الإنتاج والادخار والتصدير, وهذه هي معادلة التقدم.