وثيقة الأزهر ليست للعرض فقط‏

أخشي أن تتحول وثيقة الأزهر إلي مجرد مادة لأحاديث ومقالات المثقفين‏,‏ وخشيتي أكبر من أن تنجح الجماعات المتشددة في صرف الأنظار عنها‏,‏ وتتحول بذلك إلي نداء بلا صدي‏,‏ أو صيحة في الفراغ‏.‏ هذه الوثيقة في حقيقتها تمثل تحولا كبيرا في الفكر الديني‏,‏ وفي فكر الأزهر.

, وترسي مباديء السياسة الشرعية الصحيحة بعيدا عن المزايدين وأصحاب المصالح والساعين إلي الاستيلاء علي مقدرات الوطن باسم الشريعة, وهي تفصل بين أصحاب الدعوة إلي عبادة الماضي والرافضين للماضي كلية باسم الحداثة, ولهذا نجد في الوثيقة موقفا يجمع بين الاجتهاد والوعي بحقائق العصر.

يلفت النظر في هذه الوثيقة أنها لا تعادي الفلسفة والفنون والإبداع الأدبي, وهذا موقف تقدمي يجب أن يكون هو السائد في فكر وتصرفات علماء الأزهر في مستوياتهم المختلفة, وينتهي بذلك التيار الغريب الذي كان يعادي الفكر والإبداع ويسيء استخدام سلاح التكفير والتخوين في غير موضعه, بحيث تحول هذا التيار إلي قوة تعطل تقدم المجتمع ليلحق بالعصر الحديث, وإلي شبح يخيف كل صاحب فكر حر يحاول أن يجتهد فيصيب أو يخطيء دون أن ينتظره الجلادون الذين يرتدون مسوح الغيورين علي الدين, كما يلفت النظر أن الوثيقة تدعو إلي إقامة الدولة العصرية علي أساس الديمقراطية علي أنها هي الصورة العصرية لمبدأ الشوري, وعلي العدالة الاجتماعية, وهي جوهر العقيدة الإسلامية, كما أنها تدعو المسلمين إلي الدخول في عصر إنتاج المعرفة والعلم, وذلك مع الحفاظ علي القيم الروحية والإنسانية والتراث الثقافي للأمة.

وبعد صدور هذه الوثيقة لم يعد مقبولا أن يدعي أحد أو جماعة أنه مكلف من الله بحماية العقيدة الإسلامية, ففي الوثيقة المباديء التي تعبر عن النصوص الشرعية القطعية الثبوت والمعبرة عن الفهم الصحيح للدين, فحين تقرر أن سلطة التشريع يجب أن تكون لنواب الشعب المنتخبين, وأن لأصحاب الديانات السماوية الأخري المساواة في الحقوق ولهم الحق في الاحتكام إلي شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية فهي تعبر عن الإسلام الصحيح.

ولكي لا تكون هذه الوثيقة مادة للأحاديث التي لا طائل من ورائها, لابد أن تتحول إلي الواقع فتغير ما يحتاج إلي تغيير, وترسي من المباديء ما يحتاج إلي ذلك, وإذا لم تبدأ علي الفور بتشكيل لجنة تنفيذية من مسئولين في جهات الحكومة المختلفة لوضع التشريعات والإجراءات اللازمة لتحويل ما في الوثيقة إلي عمل, ورضي الله عن الإمام مالك الذي كان يقول: لا أحب قولا ليس وراءه عمل.. ونحن في مرحلة عمل, وكل كلام يستوفي حقه في المناقشة, والأخذ والرأي ويستقر ويتبلور يجب أن يتحول فورا إلي عمل حتي لا نظل في دائرة مفرغة ونصاب بالشلل وعدم القدرة علي الفعل واستسهال تكرار الكلام مع الاسترخاء والادعاء بأن هذه هي الحركة والحيوية في المجتمع وليس بعدها شيء.

وعلي سبيل المثال, فإن ما جاء في الوثيقة عن عدم التمييز بسبب الدين أو النوع أو الجنس سيظل مجرد كلام إذا لم يصدر قانون يعتبر كل عمل وكل دعوة تنطوي علي التمييز أو تحرض علي كراهية الأديان أو الازدراء بها أو استغلال الدين لبعث الفرقة والعداء, ؟أو إثارة النزعات الطائفية والعنصرية جريمة يعاقب مرتكبها بعقوبة الحبس, وفي دول العالم المتحضرة قوانين مماثلة يمكن الرجوع إليها والاستفادة منها, وإذا لم يصدر هذا القانون الآن فسوف نندم كثيرا.

كذلك فإن قانون دور العبادة الذي يجري إعداده يجب ألا يقتصر علي شروط البناء, وأن يتضمن أيضا عقوبات علي كل من يستخدم دور العبادة في أي أغراض غير العبادة سواء كانت أغراضا سياسية أو لتحقيق مكاسب شخصية, والنص علي أن جميع المساجد في مصر تدخل تحت إشراف وزارة الأوقاف, ولا يجوز للأفراد أو الجماعات والجمعيات تملك المساجد ويكون الإسهام في تمويل وبناء وتجديد وإصلاح المساجد وفقا للقواعد التي تضعها وزارة الأوقاف وبإشرافها.

ويتصل بذلك ضرورة التعجيل بإصدار قانون بإلغاء النصوص الواردة في القوانين والتي تفرض عقوبة الحبس أو السجن في جرائم الرأي والنشر والتي كانت من أدوات القمع وتكبيل العقول.

وبصراحة إذا لم تتحول هذه الوثيقة من دائرة القول إلي دائرة الفعل فلن تزيد علي أن تكون ورقة تضاف إلي أوراق وبيانات ومواثيق كانت تصدر لينشغل بها الناس فترة ثم يطويها النسيان, بينما يمكن أن نجعل هذه الوثيقة بداية لحركة الإصلاح الديني التي نحتاج إليها لحماية البلد وحماية الإسلام.



 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف