مع ارتفاع أصوات التشدد الديني ومحاولاتها لإسكات صوت الاعتدال والتسامح وتشويه صورة أصحابه في عيون العامة, أشعر بالحنين إلي الشيخ الشعراوي إمام الدعاة إلي الإسلام الحق علي بصيرة, وأري أن هذه المرحلة التي يختلط فيها الحق بالباطل, كانت تحتاج إلي صوت العقل.
والحكمة والجدل بالحسني كما كان يفعل شيخنا, وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
وقد اقتربت من الشيخ الشعراوي وأجريت معه حوارات نشرتها في مجلة أكتوبر حين كنت رئيس تحريرها, ولا تزال كلماته ترن في أذني محفوظة في ذاكرتي وفي أرشيف المجلة أستعيد بعضها لنري أن بصيرة الرجل جعلته ينطق بما يبدو وكأنه رسالة إلينا في هذا الوقت بالذات.
حين سألته عن تفسيره للتشدد والجنوح لدي بعض الجماعات والطوائف الإسلامية قال: إن الفكرة التي انتهيت اليها بعد تفكير طويل هي أن خصوم الإسلام عز عليهم أن يخترقوا الإسلام من باب واحد فقط للهجوم عليه فدخلوا من باب ثان هو العمل ــ الصريح والخفي ــ لتفجير المجتمع الإسلامي من داخله وبيد أبنائه وبعضهم ينساق الي ذلك بحسن نيه وبعضهم يعمل علي ذلك بسوء قصد ويقبض الثمن تحت ستار مسميات كثيرة. وهؤلاء يعملون علي إفساد العقيدة الإسلامية وتشويه الدين الإسلامي بإثارة التعصب في النفوس الضعيفة واستغلال نقاء وحماسة الشباب وغيرته علي دينه, وخططوا للعمل علي إيجاد طائفة تستغل عمق المشاعر الدينية لدي المصريين وفي العالم الإسلامي لتدس أفكارها وشعارات ظاهرها الرحمة وباطنها الشر كله, ويروجون أقوالا لا يرفضها جمهور المسلمين في ظاهرها تمسك قوي بالإسلام ولا يدرك العامة ما تنطوي عليه من هدم الأساس الذي يقوم عليه الإسلام وهو الاعتدال, والتسامح, وحرية العقيدة, ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, وليس عليك هداهم, ولست عليهم بمسيطر.. هذا هو الأساس وبعد ذلك تأتي التكاليف. ومن العجب أن نجد من يزعمون أنهم دعاة وأنهم يمثلون الإسلام ثم يعتدون علي مسلمين وعلي غير المسلمين والمسلمون هم الذين يعملون بالتوجيه الإلهي ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين, وهذا يدل علي أن هؤلاء بدون خميرة إيمانية, لأن كل من لديه علم وفهم للدين الإسلامي يحكم علي أفكار هؤلاء بأنها أفكار غريبة عن الإسلام, فهم يفعلون مالم يفعله الرسول صلي الله عليه وسلم, فالرسول لم يعتد علي المخالفين له في الرأي أو العقيدة, وليس في الإسلام ترويع الناس الآمنين, هؤلاء منحرفون, ويمارسون الإكراه علي الناس والله أمر المسلمين لا إكراه في الدين, وأري أن يبحث المتخصصون هذه الظاهرة التي ترجع إلي عوامل نفسية واجتماعية وأسرية.
وحين سألته عن العلاقة بين الدين والسياسة قال: أنا أرفض قيام أي حزب سياسي علي أساس ديني, لأن السياسة هي العمل للوصول الي الحكم والدين هو العمل للوصول الي الله, والسياسة صراع فكري بشري ضد فكر بشري آخر, أما الدين فهو خضوع الفكر البشري للفكر الإلهي, والفرق كبير بين الاثنين, ولا يحتاج إلي شرح أو إيضاح. وعن علاقته بالسياسة قال: عند بدء إنشاء جماعة الإخوان كنت من المؤسسين وعمري91 سنة, واختارني الأستاذ حسن البنا لكتابة البيان الأول الذي تضمن أهداف الجماعة, وكنت في ذلك الوقت مأخوذا بما كان يقال من أنها جماعة لنشر التربية الإسلامية وليس لها أهداف أخري, ولكني اكتشفت بعد ذلك أن لها هدفا لم تعلن عنه في البداية وهو الوصول إلي الحكم, ثم اكتشفت أنها في سعيها الي الحكم تستخدم العنف ولها نشاط خفي لا أعلم عنه ولا يعلم الأعضاء عنه شيئا يتمثل في التنظيم الخاص فافترقت عن الجماعة. وكنت مشاركا في ثورة الشباب ضد الاحتلال البريطاني والمطالبة بالاستقلال, وكنت متحمسا لسعد زغلول وللوفد والنحاس واكتشفت ان الأحزاب كلها تحولت الي هدف آخر, فانصرفت عن الأحزاب وعن السياسة وأدركت أن الدعاة إلي الله يجب أن يبتعدوا عن أطماع ومناورات السياسة, وقلت أنا لا أريد أن أكون أنا الذي يحكم بالإسلام, وإنما أريد أن يحكمني من يشاء بالإسلام, وحين صدر قرار من الرئيس السادات بتعييني وزيرا للأوقاف دون أخذ رأيي اعتبرت هذا المنصب محنة واختبارا من الله تخلصت منه في أول فرصة وقلت: الحمد لله, ربنا رحمني من( القرف) أي من السياسة, ثم أصدر الرئيس السادات قرارا بتعييني عضوا في مجلس الشوري فلم أذهب لحلف اليمين ولذلك لن تجد اسمي ضمن أعضاء المجلس ولكن ستجده في القرار.
هذا هو الشيخ الشعراوي.. فأين هو مما نراه هذه الأيام؟!