الثورة ليست فاصل ونعود‏!‏

البعض يري أن الثورة نجحت وحققت أهدافها وانتهي الأمر وماعلينا إلا العودة الي ماكنا عليه والاكتفاء بما تحقق وهو ليس قليلا وقبول استمرار أوضاع وقوانين وأشخاص كانت دعائم وأركان النظام الذي قامت الثورة عليه‏,‏ وكأنهم يقولون لنا إن الثورة ليست إلا فاصل ونعود كما تفعل قنوات التليفزيون‏.‏

والثورة ليست كذلك. الثورة حالة اذا بدأت لاتتوقف إلا بعد أن تنتهي من إزالة الأساس الذي أقيم عليه الفساد بما في المؤسسات والقوانين والنظم والاشخاص, وهي فعل للتغيير يستمر الي أن تتم إقامة البناء الجديد الذي يضمن للشعب الحرية والعدل والكرامة ويرسي الضمانات للمستقبل.. الثورة هدم وبناء, والهدم ليس مجرد إسقاط الاشخاص الفاسدين فهذا أمر لابد منه لتكون الثورة ثورة, ولكن ذلك وحده ليس هو الهدف. الهدف هو إسقاط النظام. والنظام هو التشريعات والهياكل السياسية والدستورية والإجراءات التي تمثل الأساس الذي أقيمت عليه مؤسسة الفساد. وإسقاط النظام الفاسد لايقل أهمية عن اسقاط الأشخاص الفاسدين, لأن النظام الفاسد ينتج الأشخاص الفاسدين كما أن الأشخاص الفاسدين هم الذين أقاموا قبل ذلك ـ ويمكن أن يقيموا بعد ذلك ـ النظام الفاسد.

وهذا يعني أن الثورة لابد أن تستمر الي أن تستكمل إسقاط الدعائم والأسس التي اقيم عليها النظام الفاسد, وتقيم النظام الجديد علي أساس لايسمح بعودة الاستبداد والفساد والظلم الاجتماعي مرة أخري.. واستمرار الثورة لايعني تنظيم مليونية ومظاهرات واحتجاجات كل يوم. هذه وسائل ضرورية في مرحلة لكي تنبه الي أوجه الخلل وتعلن التصميم علي التغيير وتقطع الطريق علي أعداء الثورة, وهي مرحلة لابد منها, ولكنها ليست كل شيء, لابد أن تليها مرحلة أخري, لأن مرحلة الاحتجاجات تؤدي بالضرورة الي تعطيل الإنتاج والمرافق ومصالح الناس فإذا طالت تكون نتائجها وخيمة علي الجميع, ولن يختلف أحد علي أن توقف العمل والشلل في المواقع المختلفة ليس لهما نتيجة الا الخراب, وهذا ماحدث في الصين نتيجة الثورة الثقافية التي طالت بأكثر مما يجب وتوقف العمال عن العمل وعطلوا المصانع, وتوقف الموظفون عن ادارة المرافق, وتوقف الطلبة عن الذهاب الي الجامعات والمدارس, وكان المبرر لذلك هو الادعاء بأن هذا هو السبيل لتحقيق مصالح الشعب ولضمان عدم عودة الفساد والفاسدين ولم تكن النتيجة كذلك, وانتهي الأمر بالصين الي الخراب الاقتصادي, وانتشار المجاعات, وكان علي الشعب الصيني أن يتحمل بسبب ذلك سنوات من الجوع الي أن تمكن من العودة الي حالة ثورية رشيدة تبني ولاتهدم, وتصلح ولاتخرب, وتنتج ولاتتوقف عن الانتاج, وتغير دون توقف حتي وصلت الي مانراه اليوم.

والضمان لاستمرار الثورة وحمايتها من الانحراف, أو الاختطاف, أو سيطرة قوي انتهازية عليها, أو تمكن الغوغاء والبلطجية من تحويلها من ثورة إلي فوضي, الضمان هو أن تكون لديها بوصلة تحدد الاتجاه ولاتسمح بالانحراف عن الطريق, أي أن يكون لديها رؤية و أهداف ومنهج و تصور لما يجب أن تكون عليه مصر, ماهو النظام الاقتصادي الأصلح, هل هو النظام الاشتراكي, أو النظام الرأسمالي, أو الاشتراكية الديمقراطية, أو يمكن ان يكون لنا نظام اقتصادي غير النظم الموجودة في العالم؟ وماهو النظام السياسي الذي يتفق مع مطالب الثورة, دولة دينية يحكمها رجال باسم الله ويكون الاختلاف معهم كفرا وزندقة ومروقا عن الشريعة ويستحق من يخالفونهم أن يقتلوا أو يصلبوا أو ينفوا من الأرض؟ أم دولة مدنية يحكمها بشر قابلون للاختلاف والاتفاق ولايخرجون عن حدود الشريعة. وهل نريد نظاما يصلح للاندماج في النظام العالمي أم نريد نظاما يؤدي بنا الي العزلة والانفصال عن تيار الحضارة العالمية؟ وماهو نظام الحكم الأصلح لنا, الذي يحقق مصالحنا, ويكفل حريتنا وكرامتنا, ولايسمح بالاستبداد والسيطرة علي سلطات الدولة ويضمن احترام حقوق الإنسان بالفعل وليس بالقول فقط؟

هذه قضايا مهمة لابد أن ننشغل بها في هذه المرحلة حتي نتوصل الي التوافق عليها, ونهتدي الي الطريق للمستقبل, وفي نفس الوقت فإن هذه المرحلة هي مرحلة التعبير عن الحالة الثورية من خلال العمل وليس التوقف عن العمل وفي نفس الوقت نحرص علي المراقبة والمحاسبة وهما ضروريان لحماية الثورة. ومن هنا فان الدستور هو الوثيقة التي ستحدد البوصلة, وتضمن استقلال مؤسسات الدولة: السلطة التشريعية, والسلطة القضائية, والصحافة الحرة التي تلقي الأضواء علي السلبيات والايجابيات, ولاتقع في فخاخ الدعاية السياسية أو الدجل الإعلامي أو تختار دور الشريك المخالف علي طول الخط, وتفشي الآراء المختلفة ولاتحجب أو تكتب رأيا مهما يكن, وتساعد علي الحوار المجتمعي الرشيد حول كل قضايا الوطن.. حرية ونزاهة الصحافة هما الضمان الأكيد للديمقراطية ولنزاهة الحكم.

قطار الثورة يجب ألا يتوقف طويلا عند محطة الغضب و الاحتجاج, وهي محطة لابد منها سيكولوجيا وسياسيا, وبعدها هناك محطات أخري أكثر أهمية يجب أن يتحرك اليها القطار وبسرعة, فالعالم يركب القطار الطائر, ويركب الصاروخ, ويحقق كل يوم منجزات ومعجزات في الفكر والعلم والاقتصاد والصناعة والزراعة والتكنولوجيا, ونحن في بداية الرحلة الي مصر الحديثة.. القوية.. مصر الحرية والعدل والقانون والكرامة.


 


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف