الثورة بين الرومانسية والواقعية

كل ثورة تمر بمراحل ولا تجمد عند مرحلة واحدة وإلا حكمت علي نفسها بالموت‏,‏ وهذا هو قانون الحياة‏..‏ من لا يتطور يموت‏..‏ والثورة في مرحلتها الأولي تعيش في توهج الانفعالات‏,‏ وجموح الأحلام‏,‏ وتتصاعد مطالبها دون نظر أو اعتراف بإمكان تحقيق هذه المطالب أو عدم إمكانها أو حساب لما يمكن أن ينتج عن ذلك من خسائر أو أعراض جانبية تكون لها أحيانا آثار عكسية‏.‏


هذه مرحلة رومانسية يميزها الانفعال والاندفاع والجموح أحيانا كما حدث في الثورات الفرنسية والروسية والصينية.. وبعد فترة تصل الثورة إلي مرحلة النضج والواقعية في التفكير وفي المطالب, وتتعلم من التجربة والخطأ كيف توازن بين المطالب وإمكانات تحقيقها, وتحسب النتائج السلبية والإيجابية لكل خطوة وكل إجراء.. وردود الأفعال في الداخل والخارج, لأن الثورة لا تعيش في المطلق أو في الفراغ, ولكنها تعيش في بلد له ظروفه ومكوناته وحدود القوة المتاحة له, وحوله عالم يؤثر ويتأثر بما يجري فيه ويجب أن يوضع ذلك دائما في الحسبان.

في المرحلة الرومانسية تريد الثورة إزالة كل التشوهات والأخطاء والقواعد الظالمة والشخصيات الفاسدة والتشريعات التي أنتجت الفساد وتريد التخلص من كل ما يمت للماضي بصلة, وفي هذه المرحلة أيضا تستيقظ الآمال المكبوتة, وتتفجر المظالم, ويطالب الجميع باستعادة حقه في حياة كريمة وحرة.. وهذه مرحلة لابد منها.. فهي مرحلة الطوفان الذي يكتسح الأوضاع القائمة ورموزها ويزيل سوءات المرحلة السابقة, ويهدم أركان النظام القديم, ويقضي علي أسباب وأبواب الفساد.. ولكن بعد الهدم والإزالة والمحاسبة والقصاص يبقي الهدف الأساسي للثورة وهو إقامة مجتمع العدل والقانون والحرية. والسرعة في المرحلة الأولي ضرورية لتكون الثورة ثورة, ولكنها في النهاية مشغولة بالماضي وإزالة آثاره, أما في المرحلة الثانية فهي الضمان لإقامة البناء الجديد علي أسس صحيحة. وفي المرحلتين لابد من استمرار روح الثورة وقوة الدفع الثورية والحماسة..

وكل ما يحدث في المرحلة الرومانسية طبيعي ومتوقع, من اندفاع أو تسرع أو مبالغة أو تشدد. وذلك بدافع كراهية الأوضاع السابقة والخوف علي الثورة من أن يهدأ بركانها, وعندما تصل إلي المرحلة الواقعية تحتاج إلي بعض الهدوء والتفكير المتزن, وتحتاج إلي الاستعانة بأصحاب الخبرة والكفاءة إلي جانب الثوار, لأن الحماس وحده لا يصنع المستقبل والنيات الطيبة وحدها لا تبني بلدا.. وقد تؤدي إلي نتائج عكسية, وعلي سبيل المثال فإن استمرار مرحلة الاندفاع سمحت بظهور جماعات تهدم الأضرحة وتحطم المقاهي وتطارد السيدات والرجال لإرغامهم علي ملابس معينة أو علي سلوك معين, وأعطت الفرصة لانطلاق البلطجية والهاربين من السجون ليندسوا في صفوف الثوار الشرفاء. وأدت هذه المرحلة إلي توقف الإنتاج بأكثر مما يحتمل اقتصاد البلد وإلي تناقص موارد الدولة وزيادة التضخم وعجز الموازنة, وسحب مليارات الدولارات من الرصيد الاستراتيجي للبلاد, بالإضافة إلي تزايد مخاطر خارجية قد تغيب عن فكر البعض, والمطالب يحتاج تنفيذها إلي فترة ليست قصيرة.. تغيير القيادات.. وحل المجالس المحلية.. والتحقيقات في جرائم الفساد المالي وإفساد الحياة السياسية.. وتكملة إسقاط أركان النظام السابق.. وبلورة الفكر حول دور الشباب في الحياة السياسية وفي المشاركة في القرار.. وكيف نجعل للعلم والعلماء الكلمة العليا بدلا من المدعين والدجالين.. وكيف نعيد بناء نظام التعليم.. وكيف نصل إلي رؤية للمستقبل تشمل التوجهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجديدة.. وكيف نعيد الثروات والأراضي المنهوبة.. ونعيد الصناعة والزراعة والنشاط الإنتاجي محل النشاط الريعي والسمسرة ونقضي علي النظم والسياسات التي بررت الرشوة والتربح وإطلاق العنان للنصابين بادعاء أنهم مستثمرون ورجال أعمال.. كيف نقضي علي البلطجة في الفكر والسياسة والاقتصاد والحياة العامة.. كيف نجد محافظين ورؤساء شركات ورؤساء جامعات وعمداء كليات ورؤساء مدن صالحين للقيام بأعمالهم بنزاهة وشرف ولا يجيدون استخدام وسائل ملتوية للحصول علي مزايا وأموال لايستحقونها دون أن يعلم بها أحد.. وفي كل موقع كانت هناك أسرار يصعب الكشف عنها إلا بمجهود كبير..

والمعادلة الصعبة أمام الثورة هي كيف نجعل حرية الرأي مكفولة, وهناك من لا يزال يعتبر الرأي المختلف خيانة, وكيف نقنع الناس بالعودة إلي أعمالهم وقد عاشوا سنوات من الوعود الكاذبة وضياع الحقوق.. وكيف نحقق قوة الدولة والبعض يريد تفكيك الدولة والبعض الآخر لا يقبل الصبر أو التضحية من أجل بناء القوة.. وكيف نستعيد دور مصر الفاعل في وجود مناوشات وشغب وأحداث تستنزف الطاقة في تعقبها, وكيف نتفرغ للعمل لتعويض ما فات وهناك من يحاول أن يعرقل المسيرة لإثبات أن النظام السابق كان الضمان للاستقرار وبزواله سوف نفقد الاستقرار, وهناك من أعطي الإشارة إما ببقاء الحال كما كان وإما الفوضي.. وهذه خطة أعلنها أصحابها منذ البداية.. وكيف نعمل علي تهيئة الأجواء للإصلاح وهناك من يطمعون في القفز علي المناصب, ومن يسعون إلي تصفية حساباتهم مع خصومهم, ومن يريدون تحسين صورتهم وادعاء البراءة ويتمسحون في القادة الجدد..

هذه بعض المعادلات الصعبة التي تحتاج إلي حوار يسوده العقل والمنطق والواقعية يحدد الأولويات, لأن إنجاز كل المهام في وقت واحد مستحيل عقلا, والواقعية تفرض أن يتحلي الجميع بفضيلة الصبر, لأن التسرع خطأ كما أن التباطؤ خطأ. وإذا كانت مرحلة الهدم يلزمها الحماس والاندفاع فإن مرحلة البناء يلزمها التفكير الجماعي وتبادل الرأي والاتفاق علي رؤية نلتف جميعا لتحقيقها.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف