الثورة في منتصف الطريق

اشتعلت شرارة الثورة في مصر يوم‏25‏ يناير‏,‏ وسارت خطوات واسعة نحو التغيير الثوري‏,‏ ولكنها ـ حتي اليوم ـ لم تغير كل شيء‏,‏ ولا تزال في منتصف الطريق‏,‏


 ووراءها قوي الشعب تدفعها إلي إسراع الخطي واستكمال المهمة, وأمامها قوي أخري تحاول عرقلة مسيرتها, وتفرض عليها مشكلات وعقبات لكي تشغلها وتستنزف قواها, وتحشد أتباعها للقيام بعمليات التخريب والشغب.

ولا يستطيع أحد أن ينكر أن للثورة أنصارا وأعداء, ومثل كل ثورة في التاريخ هناك من ترتبط مصالحهم بتنظيف الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد, وهناك من ترتبط مصالحهم بالإبقاء علي الأوضاع الفاسدة علي ما كانت عليه بقدر الإمكان, وإن أرغموا علي التراجع فإن الطبيعة البشرية تدفعهم إلي استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة ليحتفظوا بما كان لهم من قدرة علي التأثير علي القرار ونهب المال الحرام, وهؤلاء لن يترددوا في استغلال كل ثغرة وكل فرصة وكل لحظة لوقف الإجراءات الثورية, أو علي الأقل التشكيك في جدوي كل ما حققته الثورة, وهؤلاء موجودون, ولم تنزع أسلحتهم بالكامل, وليس من الحكمة تصور أن الذين فقدوا شيئا من نفوذهم يمكن أن يستسلموا ويقبلوا التنازل عما كان لديهم من حصاد الاستغلال والاستبداد.. وربما يجدون في التاريخ ما يغريهم علي الأمل في العودة بالأمور إلي ما كانت عليه وكأن شيئا لم يكن, خاصة أن أعوانهم ما زالوا يديرون مواقع كثيرة وفي انتظار إشارة البدء للانقضاض, وفي التاريخ ثورات انتكست وتراجع الثوار بدلا من تراجع الفاسدين, لأن تلك الثورات لم تتنبه إلي أن النظام الذي أقام دعائمه وغرس في كل موقع من يدينون له بالولاء يستطيع أن يحيك المؤامرات ويفتعل المناوشات, وربما يكون قادرا علي تهييج مشاعر البسطاء الذين يسهل خداعهم.

من هنا فإن المنطقي هو الاستجابة ـ الكاملة والفورية ـ لما يريده الشعب لتحقيق مصالحه وحماية ثورته, والشعب يريد إدارة جديدة لكل المرافق والمواقع الحاكمة في الدولة, إدارة لها مصلحة في استكمال مسيرة الثورة, والمسألة تتلخص في صراع المصالح, مصالح الشعب والبلد من ناحية, ومصالح المستفيدين من الفساد من ناحية أخري, ولا فرق بين فاسد وفاسد, فالفاسدون سواسية, الكبار منهم والصغار, وفي الثورات لا عصمة لأحد من حكم القانون.

والمطالبات بتغيير القيادات تجب الاستجابة لها ودون إبطاء, فهذا هو ما يتفق مع طبيعة الثورة التي تعني عهدا جديدا, بعقلية جديدة ووجوه جديدة, وقد أثبت التغيير الذي حدث متأخرا في قيادات الصحف والتليفزيون أن التردد لم يكن له مبرر ولم يحقق مصلحة.. وأمامنا ظواهر البلطجة والانفلات والترويع التي تشير إلي وجود طابور خامس يسعي إلي إثارة الفوضي وإجهاض الثورة أو علي الأقل إجهاد الثورة والثوار. وماذا ننتظر من مصنع يرفض العاملون فيه استمرار المسئول عن إفساده, أو استمرار قيادات منحرفة أو فاشلة في الوزارات والمحليات, وإذا لم تكن الثورة قادرة علي قطع دابر الانحراف والفساد بجدية وحزم ودون تردد. فمتي يمكن اقتلاع الفساد والتخلص من الإدارات الفاشلة.. وإذا لم تتغير الآن في مناخ الثورة القوانين التي تفتح الطريق للفساد, ففي كم سنة يمكن أن تتغير بعد ذلك؟

وهناك من نبه إلي أنه من غير الطبيعي أن تكون محاربة الفساد بصورة انتقائية, وترك أشخاص دون محاكمة أو محاسبة, ومن غير الطبيعي محاكمة أشخاص علي جانب واحد من جوانب فسادهم وترك الباقي, والثورة تعني اقتلاع الجذور وتطهير المجتمع بالكامل, وقد كان المدافعون عن الفساد يقولون إن القضاء علي الفساد كلية مستحيل, ويرددون أن الفساد في كل العالم, وهذه كلمات حق يراد بها باطل, لأن اقتلاع الفساد ممكن إذا كنا في ثورة, وغير ممكن إذا كنا في نظام يحمي الفاسدين الكبار ويلقي في النار بعض الصغار لتلهية الناس.. والناس ترحب بالمحاكمات العسكرية علي البلطجة فلماذا لا تكون أيضا علي الفساد السياسي والاقتصادي, وهل هناك بلطجة أشد خطرا من نهب أموال الشعب وتزوير إرادته وتمرير قوانين لحماية الفساد؟

إن أكثر ما نتعرض له من أخطار في هذه المرحلة هو أن نتساهل مع من يريد تدمير الحرية والديمقراطية باسم الحرية والديمقراطية أو حتي بسبب الجهل, الخطر أن تتحول الحرية إلي فوضي وإثارة الغوغاء, وفي مرحلة الانتقال الثوري يختلف الناس في أفكارهم وقد يسيرون في اتجاهات متعارضة علي الرغم من أن الهدف واحد, ومن الطبيعي أن تظهر خلافات في وجهات النظر وفي المطالب, وتظهر المشكلات كلها دفعة واحدة وبأكبر من حجمها نتيجة انفجار المكبوت والمسكوت عنه, وكل فئة تريد أن تحصل علي حقوقها الضائعة وتظفر بأكبر قدر من المكاسب قبل غيرها, ولذلك تزداد الضغوط والاحتجاجات والنقد, ولا يعيد الأمور إلي نصابها إلا رد المظالم ومنح الحقوق لمستحقيها ووجود سلطة للضبط والتنظيم, سلطة مفتوحة العينين وقادة أشداء علي أعداء الشعب رحماء علي الجماهير التي طال انتظارها للعدل والحرية, ولا تزال تنتظر استكمال السير إلي نهاية الطريق.


 


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف