كلنا كنا نشعر, ونتحدث, ونكتب عن الفساد, وعن حالة الغضب والاحتقان في المجتمع المصري, ولكن لم يكن أحد منا يدرك, أو يتصور أن الفساد قد انتشر, وتغلغل, من القمة إلي القاع كما كشفت لنا الثورة. لقد انكشف الغطاء عن فساد سياسي, واجتماعي, وأخلاقي يفوق التصور فوجدنا الفساد أخطبوطا له ذراع في كل مكان.
ووفقا لتقديرات خبراء معهد التخطيط القومي فان الاموال المنهوبة المهربة في الخارج أكثر من005 مليار جنيه مصري, وفي حديث لرئيس البنك الأهلي قال إن رجال الاعمال في الحزب الوطني حصلوا علي مائة مليار جنيه قروضا بدون ضمانات. وفي تحقيقات النيابة عشرات الحالات من اغتصاب اراضي الدولة, وتبديد الاصول في صفقات مريبة, واستباحة المال العام, وتكدس الثروات بوسائل غير مشروعة, وكل يوم نكتشف حالات جديدة لفساد شخصيات كنا نقسم علي المصحف بأنها فوق مستوي الشبهات وليس لها من مطمع الا خدمة الشعب المصري المغلوب علي أمره.. وبعد أطنان الورق التي امتلأت بالحديث عن الانجازات والمعجزات التي تحققت وكنا ـ بسذاجة ـ نصدقها, تنزل علي رؤوسنا كالصواعق حقائق كانت ضحية الاخفاء أو الانكار.. ونكتشف ـ أنه وفقا للتقارير الرسمية لجهاز المحاسبات التي كانت حبيسة الادراج ـ ان صافي الدين العام الداخلي والخارجي بلغ0801 مليار جنيه, وان ذلك يمثل5.98% من الناتج المحلي الاجمالي, وأن الفجوة بين المصروفات والايرادات بلغت421 مليار جنيه, وان عدد الفقراء في مصر اصبح61 مليون انسان محروم من ضروريات الحياة بينما هناك من يأتيه من سويسرا الطعام واللبن والماء واللحم من انواع خاصة جدا, والي جانبه ملايين يقفون في طوابير بنك الطعام املا في الحصول علي وجبة غداء أو عشاء, وأطفال الشوارع لامكان لهم الا علي صفحات الجرائد.
نكتشف ـ بفضل الثورة ـ الارتباط بين الفساد وانتشار الفقر, والعشوائيات, وارتفاع الاسعار وعدم قدرة ملايين العمال والموظفين علي تدبير لوازم معيشتهم, وعدم توافر العلاج الضروري في المستشفيات العامة, بينما يجري آخرون عمليات التجميل وزرع الشعر وازالة الدهون في الخارج علي نفقة الدولة, وكيف اعطي من لايملك مليارات الجنيهات لمن لايستحقون وأعطي للفقراء تصريحات ووعودا وكلاما في الهواء.
وكنا ـ بسذاجة ـ نصدق ونردد مايقال لنا عن العدالة الاجتماعية وعن الرعاية لمحدودي الدخل الي ان ازالت الثورة الغشاء عن عيوننا وفتحتها علي الحقائق المفجعة, والغريب أن ضباط أمن الدولة قالوا في تحقيقات النيابة العامة أن ملفات فساد كبار المسئولين كانت موجودة في كمبيوتر الادارة وفي كمبيوتر وزارة الداخلية, وأمام القيادات العليا في الدولة, ولم يكن شيء خافيا علي القيادات التي كانت تعلم دبة النملة ولديها كل شيء بالصوت والصورة.. اي ان الفساد كان معلوما للقيادات السياسية, والسكوت عليه, أو الرضا به, أو التشجيع عليه, كان مقصودا.. وهل كانت خافية هذه الصفقات التي باع فيها وزراء لانفسهم ـ بحكم مناصبهم ـ اراضي ومنحوا انفسهم ملايين الجنيهات؟ وضربوا عرض الحائط بالدستور والقانون وباحكام القضاء.
القضية اذن, لكي تحقق الثورة اهدافها, ان يكون الفساد هو العدو الأول في هذه المرحلة, ونعلن الحرب عليه, الحرب بمعناها الحقيقي, أي ان نفتح كل الملفات, ونخرج كل الاوراق, ونكشف كل الحقائق, ونحيل كل فاسد الي القضاء دون تفرقة بين فاسد صغير وفاسد كبير وفاسد كبير جدا, ولان حجم قضايا الفساد أكبر من أن تتحمله النيابة العامة وحدها, ثم تضاف قضاياه الي ملايين القضايا المكدسة امام المحاكم وتدور في دوامات التأجيل والخبراء ومناورات الدفاع, فهناك اكثر من اقتراح, منها اصدار قانون جديد لمحاربة الفساد بكل صوره وتشديد العقوبة الي اقصي درجة, وان كنا قد وصلنا بعقوبة البلطجة الي الاعدام, فلماذا لاتتدرج العقوبة علي جرائم استغلال المنصب والصفة والكسب الحرام والتربح من الاشغال الشاقة المؤبدة الي الاعدام, واذكر في آخر زيارة لي الي الصين ان صدر حكم علي وزير بالاعدام في جريمة فساد ونفذ الحكم وكان ذلك حديث كل من قابلتهم, وكان ذلك رادعا, وهناك اقتراح بانشاء دوائر خاصة في محاكم الجنايات لنظر قضايا الفساد والتربح واهدار المال العام والاضرار بالمصالح الاقتصادية للبلاد, متفرغة لهذه القضايا ولا تزاحمها اكداس القضايا الاخري, وتكون امامها الفرصة لنظر هذه القضايا بدون مماطلة أو اجراءات معقدة, لان بقاء قضايا الفساد معلقة دون حسم هو الذي يؤدي الي استمرار الغضب الشعبي واستمرار تخوف المستثمرين. وحسم هذه القضايا هو الذي يعيد الثقة والاستقرار الي النفوس والي المجتمع والي الاقتصاد. اما الاقتراح بفتح باب التصالح مع الفاسدين والاكتفاء برد الاموال الحرام مقابل العفو, فإن فيه تنازل عن حق المجتمع في إنزال العقاب علي الجريمة ولها شق جنائي وشق مالي, والحكم فيها يتضمن السجن ورد الأموال الحرام والتنازل عن الشق الجنائي يفتح الباب لعودة الفساد علي أمل الا يتم اكتشافه وإذا اكتشف تعاد الاموال ولن يخسر الفاسد شيئا. ولذلك اظن ان ما حدث في جنوب افريقيا لايمكن تطبيقه عندنا.