الشيـــــــــخ الشعــــراوى والبابا شنودة
كان الشيخ الشعراوى يعتنق منذ شبابه المبدأ الراسخ فى وجدان المصريين وهو أن الدين لله والوطن للجميع، ونظم قصائد تعبر عن روح المحبة للأقباط باعتبارهم جنبا إلى جنب مع المسلمين فى معسكر المؤمنين بالله، وشركاء المسلمين فى محاربة الإلحاد والإباحية، ويشير فى أحاديثه وأشعاره باحترام شديد إلى السيد المسيح وللسيدة مريم العذراء، ومن ذلك قصيدة نظمها سنة 1943 قال فيها:
(اخواننا الأقباط فيما بيننا ود قديـــم ثـــابـت لم يفصم عطف الهلال علــى الصليب فما ذروا أن تجعلوا روح المسيح بمكرم) ولكنى فوجئت يوما عند زيارتى للبابا شنودة بأحد الرهبان فى سكرتارية البابا يهمس لى بأن الأقباط فى مصر «زعلانين» مما يقوله الشيخ الشعراوى فى شرحه لآيات القرآن التى تشير إلى المسيحيين، ودهشت وقلت له أنت تعرف أن القرآن علمنا أن النصارى هم أقرب الناس مودة للمسلمين، قال: أعلم ونلمس ذلك ولكن بعض الأقباط يرون أن الشيخ أساء إلى الأقباط ويبدو أن بعض الأقباط شعروا فعلاً أن الشيخ هاجم عقيدتهم وعندما قابلت البابا يومها لم يشر إلى ذلك من قريب أو بعيد، وعندما قابلت الشيخ الشعراوى سألته عن صحة ذلك فأنشد هذه الأبيات من قصيدته وقال: هذا ما قلته فى سنة 1943 ومازلت أقوله، وقال أيضاً بطريقته المعروفة فى الحديث: أنا أذكر أن من أهم الاحتفالات الدينية التى كانت تجمع آباء وأبناء قريتنا «دقادوس» كان مولد السيدة العذاراء الذى كان يقام فى الأسبوع الثالث من أغسطس كل عام، ويقال إن العائلة المقدسة مرت من قريتنا وأن كنيسة العذراء أقيمت فى القرية لهذا السبب، وكنا جميعاً أقباطاً ومسلمين نحتفل بهذا المولد الكبير، وكذلك الأمر فى مولد السيدة «ديمانة» أو كما ينطقونها فى القرية «جميانة» وطبيعة قريتنا مثل طبيعة كل المصريين تعرف مقام السيد المسيح والسيدة مريم، وفى القرآن سورة باسمها وآيات كثيرة منها قول الله تعالى «يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين» والآيات التى تشير إلى مكانة المسيح وأمه معروفة. ثم يا أخى كيف لا نلتزم بأمر الله ورسوله بأن اللأقباط لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وأمامنا الآية: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين».
لكن بعض الأقباط ظلوا يعتقدون بأن الشيخ أساء إلى عقيدتهم وأنه متعصب ويحرض على التعصب، وتلك -كما أعلم- تهمه ظالمة لأن الشيخ الشعراوى كان مثالاً للتسامح، وشاء الله أن يقضى على هذه الفكرة أو هذه الفتنة فقد ذهب الشيخ إلى لندن لاجراء جراحة فى أحد مستشفياتها وشاء الله أن يكون الجراح الذى أجرى له العلمية هو الدكتور روزين اليهودى، وأن يشرف على علاجه ويلازمه الدكتور فايز بطرس، وهى قبطى مصرى، والدكتور سويدان مسلم فكان حول الشيخ فى لندن ثلاثة أطباء كبار يمثلون الأديان الثلاثة، وكأن ذلك كان رمزا لالتقاء الأديان واصحاب الديانات على مبدأ واحد هو الإيمان بالله والإنسانية، وسُئل الشيخ: ألم تشعر بالخوف وأنت بين يدى طبيب يهودى مع أنك هاجمت إسرائيل فى أحاديثك حتى أن إسرائيل طلبت منع أحاديثك فى التليفزيون، فأجاب عن ذلك بأنه رأى أن هؤلاء الثلاثة أقرب الناس إلى الله، وأنه يؤمن بأن بين أصحاب الديانات السماوية اتفاق فى القضايا الأساسية: الايمان بالله، وطاعته، والعمل بالقيم والاخلاق التى شرعها الله، والتعاون على البر والتقوى، أما ما يختلفون فيه فهو فى الفروع ولا ينبغى أن يكون سبباً للكراهية أو العداء، ويجب ألا نعطى فرصة للملاحدة.
لقاء القمة فى الكاتدرائية
وتأثر الشيخ جداً عندما كان أول من زاره بعد إجراء العملية هو الكاهن المصرى فى الكنيسة المصرية الأرثوذكسية فى لندن ومعه بعض رجال الدين المسيحى، وقدم له هدية (علبة شيكولاتة وورد)، وقال له إن البابا شنودة طلب منه أن ينوب عنه فى تقديمها وأن يصلى لله لشفاء الشيخ، وتكررت زيارات الكهنة والمصريين المقيمين فى لندن المسلمين منهم والأقباط.
ومما يذكر ان الرئيس مبارك اتصل بالشيخ قبل سفره لاجراء الجراحة وأبلغه أنه قرر أن يكون السفر والعلاج على نفقة الدولة تقديرا لمكانته، فاعتذر الشيخ وقال للرئيس: طالما أنا قادر على تكاليف السفر والعملية فارجو إلا تتكلف الدولة باعباء فوق اعبائها وأنا أسأل الله يا سيادة الرئيس أن يمد فى نعمتك على قدر أمتك ليحظى كل مواطن بما تريد أن تفعله لى.
وفعلا تكفل الشيخ بنفقات السفر والعلاج من ماله الخاص، وعبر عن شكره للرئيس الذى اتصل به تليفونيا فى المستشفى للاطمئنان عليه.
وعندما عاد الشيخ إلى مصر سالما رأى أن من الواجب أن يزور البابا فى الكاتدرائية، فكان استقبال الشيخ فى الكاتدرائية استقبالا حافلاً.. كان عشرات الأساقفة والكهنة فى انتظاره مع البابا.. وتجمع عدد كبير من الأقباط أمام الباب الخارجى لتحية الشيخ أثناء دخوله.. وكانت فرحة الجميع بالشيخ ظاهرة على الوجوه.. وكان المقرر أن تستمر الزيارة نصف ساعة تقريباً كما قال لى إلا أن اللقاء استمر أكثر من ثلاث ساعات ولم يشعر أحد بمرور الوقت.
وقد سجل زميلنا الراحل محمود فوزى -نائب رئيس تحرير مجلة أكتوبر- هذا اللقاء: بعد عبارات التحية من البابا للشيخ والتهنئة بالسلامة والشفاء وعبارات الشكر من الشيخ للبابا على اهتمامه وما لقيه من رعاية «ابنائه» فى لندن، قال البابا: قال لقد نبهنا إلى شىء هام، وهو أن الذين ارتبطوا بالسماء يجب أن يضعوا أيديهم فى أيدى بعض دائماً من أجل ما اتفقوا عليه ويتركوا ما اختلفوا فيه، خاصة وأن الملحدين يأخذون من الخلاف حجة لكى يبتعدوا عن الايمان، ونشكر الله لأن المساحة المشتركة بيننا واسعة لكى نعمل فيها معا.. وقال الشيخ: إن مساحة الاتفاق هذه تسعنا بإذن الله لخير الوطن، واضاف البابا: نعمل معا ليس فقط فى مواجهة الملحدين، ولكن ضد المنحلين خلقيا واجتماعيا وفكريا، فالبعض يستغل حرية الفكر لينحرف بفكره ويقع فى الضلال، وعلق الشيخ قائلاً: إن الفكر الذى يجب أن يشغل الناس به أنفسهم هو فى حقيقة واحدة، هى حقيقة الله الذى خلق الكون وما أمر به عباده، وغير ذلك لايعتبر فكرا، وعلينا أن نتذكر أن الرسول كان معاصرا لقوتين هما دولة فارس المجوسية ودولة الروم وهم أهل كتاب وعندما هزمت دولة الروم من الفرس حزن الرسول والصحابة كثير إلى أن جاءته البشرى فى القرآن بأن النصر سيكون للروم المؤمنين بالله بعد بضعة سنين، وعندما تحقق وعد الله لهم بالنصر فرح المسلمون لأن المؤمنين بالله اخوة.
وقال الشيخ الشعراوى إنه يعرف أن البابا له مؤلفات كثيرة ويجب أن يطلع عليها، فأهداه البابا مجموعة كتب من مؤلفاته، لكن الشيخ قال: وأين الشعر؟.. فقدم البابا كتابا يضم بعض الأشعار التى نظمها وقال البابا للشيخ الشعراوى: هل يمكن أن نسمع منك بعض اشعارك،وألقى الشيخ إحدى قصائده وسأل البابا أن يسمعه قصيدة من قصائده، واستمر الاثنان يتبادلان اللقاء والأشعار من تألفيهما وسط تهليل الحاضرين.. وتحولت الجلسة إلى سوق عكاظ صغير بين قطبين.. وهمس أحد الأساقفة فى أذنى وفى عينيه دموع: هذا لقاء تاريخى. هذا لقاء القمة بحق.
كلنا تحت عباءة واحدة
وفى نهاية اللقاء الملىء بالحماس والانفعال والابتسامات وبعد أن تبادل البابا والشيخ الضحكات والنكت والقفشات وكلاهما معروف بروح المرح فى الجلسات الخاصة، قدم البابا هدية إلى الشيخ عبارة عن موسوعة لسان العرب لابن منظور من عشرين جزءاً، وقدم الشيخ الشعراوى إلى البابا هدية عبارة عن عباءة سوداء علق الباب وهو يتسلمها قائلاً: نحن نريد للمجتمع كله أن يعيش تحت عباءة واحدة، وفى وداع الشيخ كانت مظاهرة. البابا.. والأساقفة.. وجمهور كبير كان لا يزال واقفا عند الباب لتحية الاثنين.. وقال الشيخ وهو يصافح البابا: اسأل الله أن يجعل هذا اللقاء معكم بداية خير لدينه ورسالاته، وأن نتمكن معا من أن نلفت الناس إلى منهج السماء فيجعلوه مطبقاً فى منهج الأرض.. وقال البابا: نصلى جميعاً ليحفظ الله بلدنا وشعبنا ووحداتنا وصفاء قلوبنا.
وبعد ذلك كنت فى زيارة الشيخ وسألته: هل قرأت كتب البابا وأشعاره، قال لى: قرأتها، قلت: ماذا وجدت فيها؟.. قال: والله لم أجد فيها ما اختلف عليه معه، وحين توفى الشيخ ذهب البابا للعزاء مع مجموعة من كبار الكهنة.. وقال: لقد خسرنا شخصية نادرة فى إخلاصها ونقائها وفهمها لجوهر الايمان ولم يستطع أن يخفى ملامح الحزن على وجهه.