يخطيء من يتصور أن ثورة الشعب المصري قد ثبتت أقدامها ولم يعد هناك ما يدعو الي الخوف عليها من أن ينال منها أركان النظام السابق, لأن الذين استفادوا من النظام القديم لن يستسلموا بسهولة, ولن يقبلوا التخلي عن مواقعهم طواعية, وهي المواقع التي فتحت لهم أبواب السلب والنهب والتسلط بلا حدود.
وقانون الطبيعة والحياة يعلمنا أن كل فعل له رد فعل, والتاريخ يعلمنا أن كل ثورة لها أعداء لن يترددوا في استغلال كل ثغرة وكل فرصة لاجهاضها ولاستعادة ما فقدوه وما حققته أو التقليل من قيمته علي الأقل, والتشكيك فيما يمكن أن تحققه بعد ذلك, ولعلنا نلاحظ بدء ظهور رؤوس الفتنة بعد أن اختفوا في الأيام الأولي للثورة تنفيذا لتكتيك التراجع ثم الهجوم المضاد, وقد بدأت بالفعل محاولاتهم للانقضاض علي الثورة وإفراغها من مضمونها ثم تحويلها الي فوضي والانحراف بها بعيدا عن أهدافها الحقيقية,وليس بعيدا أن تكون ذيول النظام القديم وراء عمليات الإثارة والمظاهرات والمطالب المبالغ فيها والتي تفوق القدرة علي تحقيقها الآن وفورا, صحيح أن ما حدث في السنوات الماضية من تجاهل حقوق فئات كثيرة, والإسراف في استخدام وسائل القمع الوحشية, والكبت الطويل لابد أن يؤدي إلي الانفجار, والي ارتفاع سقف المطالب والتطلعات بما يفوق القدرة علي تحقيقها جميعا الآن وفورا, الا أنه هناك عامل مهم يؤدي الي تزايد التجمعات والمطالب العشوائية هو غياب قيادة لهذه الثورة, وغياب التواصل مع الجماهير, ولا تكفي البيانات والتصريحات التي تصدر ولكن تحتاج الجماهير في هذا الوقت إلي من يخاطبها ويتعايش معها ويستمع اليها باهتمام حقيقي وباحترام ويحاور قيادات الطوائف والجماعات ويشرح لها الظروف التي تمر بها البلاد ويحقق لها الممكن, ويقدم لها برنامجا واضحا لما سيتحقق غدا وبعد غد.
تحتاج هذه الفترة الي وجود صوت الثورة الذي يعبر عن إرادة الجماهير لتشعر بأن صوتها وصل الي القيادة ومطالبها قيد الدراسة والتنفيذ في حدود الممكن وما يؤجل منها لن يذهب الي النسيان وسيتحقق فعلا كلما توافرت الإمكانات.. هذا التواصل لايحققه مذيع في التليفزيون ولا مقال في صحيفة, ولكن تحققه قيادات طبيعية تفرزها هذه الثورة, قيادات تعيش وسط الناس ويثق بها الناس بعد أن فقدوا الثقة بكل الأشخاص وكل الأقوال القديمة, ولن تتحقق الثقة الا بأن ينفذ كل وعد في موعده, ولابد أن نراعي أن الناس استمعوا الي وعود كثيرة تفوق الحصر بتحقيق العدالة الاجتماعية بينما كان يتحقق العكس ويعاني الناس من الظلم الاجتماعي, ووعود بالحرية والديمقراطية بينما كانت تفرض عليهم القيود ويحرمون من الحريات وتنتهك الكرامة الإنسانية علي أوسع نطاق, ويزداد طغيان القلة التي لا تشبع من نهب ثروات البلد وتتجاهل ملايين العاطلين المحرومين من فرصة الحصول عي عمل ومسكن وحياة إنسانية. وفوق ذلك فإن ما ينشر اليوم من جرائم وفضائح, وكان معظمه معروفا من قبل, وحصول القلة علي أجور بملايين الجنيهات بينما يتقاضي ملايين العاملين أجورا لا تكفي لتوفير حد الكفاف, ولو بدأنا فورا بتخفيض سقف المرتبات الخيالية ورفع الحد الأدني للأجور وتقريب الفجوة الهائلة القائمة بين الحد الأدني والحد الأقصي, لو فعلنا ذلك فسوف نقلل كثيرا من الاحتقان المتفجر الآن, لأن هذه المرتبات والمزايا الخيالية هي من اسباب السخط والقلق الاجتماعي والشعور العام بالإحباط والدافع للتمرد والعصيان, ولا ينكر أحد الجهد الخارق الذي تبذله النيابة العامة في التحقيق في جرائم الفساد والاستيلاء علي الأموال والأراضي فإن ما يطمئن الناس أن تحال هذه القضايا الي دوائر خاصة ولا تتوه في زحام القضايا الأخري وتدور في دوامات التأجيل والخبراء والطب الشرعي وتبادل المذكرات والألاعيب المعروفه التي يجيدها كثيرون للتسويف الي أن تضيع معالم الجريمة ويمكن بعدها قلب الحقائق وتحويل المجرم الي بطل قومي!
كان الخطأ في النظام السابق أنه لم يدرك أن الشعب المصري تغير وأصبح أكثر وعيا وإيجابية وتطلعا الي نيل حقوقه, بينما لم يتغير أسلوب إدارة الدولة, فصار الشعب أكثر وعيا ومسايرة للعصر من حكامه, وأصبح قادرا علي الوصول الي الحقائق الخافية ويعتمد علي وسائل اعلام غير رسمية تنشر الحقائق وتكشف الأكاذيب التي تروجها وسائل الإعلام الرسمية, ولم يدرك المسئولون أن ما يظنون أنه يخفي علي الشعب كان معلوما, ولم يدركوا حقيقة تخلف الإدارة السياسية عن الوعي الشعبي. واليوم فإن كشف المستور وإعلان الحقائق كاملة من أهم عوامل استعادة الثقة.