لاشك في أن الذين حرضوا وخططوا للجريمة الإرهابية في الإسكندرية يشعرون الآن بخيبة الأمل لفشلهم في تحقيق أهدافهم.. وبالنسبة لنا فإن الإرهاب ـ بهذه الجريمة ـ قد دق لنا الأجراس لكي نراجع كثيرا من أمورنا وسياساتنا.
, وإلي أن نبدأ في العمل باتخاذ إجراءات جديدة وتنفيذ سياسات وإصدار تشريعات تغير ما نحن فيه من استسلام للأمر الواقع علي ظن أنه الضمان للاستقرار!
فشل الإرهاب دون شك.. أرادوا أن يشعلوا نار الفتنة ويمهدوا للانقسام ويثيروا النعرة الطائفية فتحقق العكس.. ذابت الفوارق, وتلاشت الحساسيات, والتحم أبناء الشعب في صف واحد يعلن بصوت واحد رفض الإرهاب والقوي التي تحركه.. أرادوا أن يشككوا المسيحيين في قدرة الدولة المصرية علي حمايتهم, فأعلن الأقباط ولاءهم لدولتهم والتفافهم حول علمها وثقتهم في أجهزة أمنها, ووجهوا غضبهم إلي الإرهاب وليس إلي وطنهم, وحتي القلة القليلة التي طاش صوابها بفعل الصدمة عاد إليها رشدها لتهتف لمصر وطنا للجميع.. وأرادوا إيهام العالم بأن مصر ليست بلدا آمنا والسياحة فيها خطر ومخاطرة فلم يصدق ذلك إلا القليل, وسرعان ما عادت الثقة إليهم وعادت السياحة إلي سابق عهدها تدريجيا.. أرادوا إثارة الرعب في نفوس المصريين في يوم عيدهم, فلم يتطرق الخوف إلي قلب أحد وخرجوا جميعا ـ مسلمين وأقباطا ـ في مشهد تاريخي ليحتفلوا بعيد ميلاد السيد المسيح, وكان ذلك أبلغ رد علي الإرهاب.. وربما أرادوا أيضا أن يقدموا مادة تفتح شهية زعماء البرامج الحوارية في الفضائيات التي تبحث عادة عن أي خبر أو موضوع ليجعلوا منه مأساة كبري وينصبوا سرادق التعزية ويستضيفوا الجوقة المعتادة من أبطال النضال الحنجوري, ولكن لم يظهر إلا شباب البرامج الحوارية الوطنيون في كل الفضائيات المحترمة الحكومية والخاصة, وكانت وقفتهم ونداءاتهم بلسان واحد طلقات موجهة إلي الإرهاب وأعداء الحياة.
نجح الإرهاب فقط في توحيد الشعب المصري الذي يتوحد دائما في الكوارث والحروب والأزمات فلا يمكن التمييز بين مسيحي ومسلم.. ولا بين رجل وامرأة.. ولا بين شيخ وشاب.. وتذكروا ما جري في عدوان1956 وعدوان1967 وحرب1973, حيث اختلطت علي أرض مصر دماء الجميع لتروي قصة الشعب الذي وصفه توفيق الحكيم بأنه الكل في واحد.
بذلك توافرت الظروف المناسبة لتغيير يصحح الأوضاع التي تحتاج إلي تصحيح دون انتظار لما ستسفر عنه التحقيقات, فليس هناك شك في أن أجهزة الأمن والتحقيق ستصل إلي الحقائق والجميع يدركون أن مثل هذه الجرائم لا يتم اكتشاف حقائقها إلا بعد وقت, وهذا ما رأيناه في الدول الكبري التي تعرضت لجرائم مماثلة, فعلينا ألا نضيع الوقت ونبدأ في العمل, وتنفيذ ما أجمع عليه الرأي العام من إجراءات وتشريعات وقرارات لتحويل شعار المواطنة من مجرد شعار إلي حقيقة في الحياة وفي الممارسات اليومية بحيث لا نردده فقط, ولكن نشير إلي الواقع الذي يعيشه المصريون ونقول للعالم: هذه هي المواطنة حقيقة حية وليست كلمة مكتوبة في وثيقة أو كلمة تتردد في الخطب والأغاني.. ولابد أن نعيد قراءة ما لدينا من تقارير وتوصيات لمواجهة الإرهاب أعدها خبراء وقانونيون ومفكرون منذ عشرات السنين بحيث لا حاجة بنا إلي إعادة البحث أو الدوران في الحلقة المفرغة.. لجنة ثم لجنة فرعية.. وخبراء ثم مستشارون.. واجتماعات وحوارات.. وكلام كثير يبدد الطاقة ويضيع الوقت.. ويجب ألا نعيد أكثر من اللازم القول بأن الإرهاب ظاهرة عالمية, ويرتكب جرائمه في كل الدول الكبري والصغري, فهذا صحيح ولكنه ليس مفيدا, بل بالعكس فإنه يرسخ في العقل الجمعي أن الإرهاب لا مفر منه ولا أمل في قطع دابره, وبالتالي فإن الممكن الوحيد هو قبول التعايش مع الإرهاب.. وهذا غير مقبول بالطبع. كذلك ليس من الصواب الإسراف في التغطية الإعلامية لكل حادث إرهابي والإلحاح في نشر التفاصيل والصور والجثث والأشلاء, لأن ذلك يمكن أن يغرس الخوف والفزع, وهذا بالضبط ما يهدف إليه الإرهاب, ويكفي تقديم المعلومات بعد التأكد من صحتها دون أن تزيد, وتشجيع المواطنين علي التعاون مع أجهزة البحث والتحقيق. مهمة الإعلام مساعدة المواطنين علي أن يكونوا الطرف الفاعل والمشارك في مواجهة الإرهاب, فهم السياج الحقيقي الذي يحمي الوطن والمواطنين, ويجعل شياطين الإرهاب يترددون في القيام بجرائمهم.. وفي الوقت نفسه فإن الوجود الأمني بكفاءة في الشارع يؤكد هيبة الدولة, والتركيز علي الأمن الجنائي يؤدي إلي إشاعة الشعور بالأمن ويقلل فرص ظهور إرهابيين جدد, لأن من يرتكب الجرائم الجنائية هو إرهابي محتمل, وتعقب بؤر الجريمة يجفف أحد منابع الإرهاب.
وليس هناك ما يدعو إلي الظن بأن البلد خالية تماما من العناصر الإرهابية, سواء كانت خلايا نائمة أو أفرادا خضعوا لعملية غسل مخ وامتلأت رؤوسهم بأفكار معادية للمجتمع وللناس,
مواجهة الإرهاب لا يمكن أن تكون بالأمن وحده, ولابد أن يشارك المجتمع كله.. البيت, والمدرسة, والجامعة, والإعلام, والمسجد, والكنيسة, والأزهر, والبطريركية, والجمعيات... إلخ, ولابد أن تكون للدولة خطة طويلة الأجل للقضاء علي الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تنتج الإرهاب أو تهييء الظروف له, وذلك بأن يكون مجتمعنا أكثر عدالة, وأكثر ديمقراطية واحتراما لحقوق الإنسان, وأكثر وضوحا في أهدافه, وأكثر احتشادا وراء هدف قومي أو مشروع قومي كبير توجه إليه طاقات الجميع.