ثقافة الاستهلاك وثقافة التنمية

يستدل البعض علي ارتفاع المستوي الاقتصادي والاجتماعي للمصريين بالزيادة الهائلة في الاشتراك في خطوط التليفون المحمول وانفاق مايقرب من ثلاثة آلاف مليون جنيه سنويا في المكالمات‏,


‏ ويضيفون إلي ذلك زيادة الاقبال علي شراء السيارات الجديدة بعد ان فتحت البنوك ابوابها لتسهيل الحصول علي قروض لشراء هذه السيارات وقيامها بحملات اعلانية تلح علي المواطن لاغرائه بمغامرة الحصول علي سيارة بقرض يفوق قدرته علي سداد اقساطه في معظم الاحوال‏.‏

ويستدل البعض الآخر علي تدني الاحوال بزيادة اعداد المواطنين الذين يعيشون علي خط الفقر أو تحته ويسكنون العشوائيات التي تنمو نموا يفوق الجهود الحكومية لاصلاح احوالها‏..‏ كيف يمكن فهم هذا التناقض بين القدرات المالية المحدودة وزيادة الاستهلاك ليس في المكالمات التليفونية وتكلفة اقتناء السيارات فقط‏,‏ بل في الاستهلاك عموما الذي يشمل الكماليات‏,‏ الأمر الذي يؤدي احيانا إلي الحرمان من بعض الضروريات‏,‏ اجابة العلماء الاجتماعيين عن هذا السؤال اننا امام سلوك مرضي‏,‏ اصبح الاستهلاك فيه نوعا من الادمان لايستطيع الفرد مقاومته علي الرغم من انه يؤدي إلي تراجع قيم العمل والانتاج والادخار‏,‏ وعند علماء الاجتماع فإن ثقافة الاستهلاك تؤثر تأثيرا سلبيا علي الانتاج الوطني والتنمية ـ وتحقق ازدهارا للاستيراد اي للتنمية في المجتمعات الخارجية‏,‏ وفي تقرير للمجالس القومية المتخصصة ان الثورة الإعلانية التي تلح علي المواطن جعلت الاستهلاك ثقافة مفروضة بما تبدعه من عناصر التشويق التي تشعر الانسان بالقهر والحرمان اذا لم يحصل علي هذه السلع الكمالية‏,‏ وتكفي مشاهدة السيل المنهمر من الاعلانات في جميع قنوات التليفزيون عن الشامبو وزيوت الشعر‏,‏ وكريمات تنعيم البشرة‏,‏ وعلاجات الشيخوخة وإعادة الشباب‏,‏ والمياه الغازية وعروض الازياء وغيرها دفعت الملايين إلي الهرولة نحو سلع استهلاكية دون الحاجة إليها‏,‏ وانتشرت هذه النزعة الاستهلاكية لدي معظم الشرائح والفئات والطبقات الاجتماعية كظاهرة عامة يري البعض انها من ظواهر العولمة لاتقتصر علي المجتمعات الصناعية الغنية بل اصبحت تشمل الدول المتخلفة اقتصاديا‏,‏ مع فارق عظيم بين دول تستهلك ما تنتجه وتسوق ما لاتستهلكه‏,‏ ودول علي العكس تستهلك ما ينتجه الغير وتتفنن في تسويقه واغراء مواطنيها علي انفاق اموالهم علي اقتنائها‏.‏

وفي تقرير خبراء المجالس القومية المتخصصة ان الشعوب في الدول الاقل نموا أكثر ميلا نحو الاستهلاك الترفي‏,‏ والاسباب نفسية واجتماعية اهمها ان الاستهلاك في نظر البعض يرضي تطلعهم إلي الرقي الاجتماعي‏,‏ ورفع مكانة الشخص في المحيط الذي يعيش فيه‏,‏ فمن يملك اثنين او ثلاثة تليفونات محمولة يتباهي بها‏,‏ ومن يملك بلاك بيري أو اي فون يستعرضه امام الآخرين‏,‏ ومن يملك اي فون‏4‏ يشعر بالتفوق علي من يملك اي فون‏3‏ لانه يساير التطور والموضة بصرف النظر عن اعباء التكلفة وما تسببها من ازمات‏..‏ هي ثقافة تفاخر تضفي علي الشخص المكانة والهيبة كما يقول الخبراء‏..‏ هي رمز للترقي في السلم الاجتماعي وان كانت ـ بالطبع ـ بعيدة عن العقلانية‏,‏ بينما في الدول المتقدمة لايشتري الشخص إلا بناء علي احتياجاته الفعلية وقدرته المالية‏,‏ وبعد تفكير وبحث عن الافضل والاقل سعرا‏..‏ يقول التقرير ايضا ان الدول المتقدمة تغرس في شعوبها ثقافة عقلانية وتغرس في الشعوب الاخري ثقافة الفشخرة وتستخدم في ذلك مالديها من نتاج ثورة الاتصالات وفنون التأثير والاعلان تجعل الفرد يشعر بالاحتياج لشراء سلع لايمكن الاستغناء عنها‏..‏ ولايستطيع الانسان في الدول المتخلفة ان يقاوم طغيان الاعلان وتكنولوجيا التسويق ووسائل التأثير علي العقول بوسائل تبدأ بالترغيب وتنتهي بالاجبار السيكولوجي‏.‏ وثقافة الاستهلاك مرتبطة بصناعة جديدة هي صناعة المستهلك بوسائل غير مباشرة عديدة منها الافلام والمسلسلات وظهور شخصيات في برامج تجعل الفرد يقارن بين حاله وحال الآخرين سواء في مجتمعه أو في المجتمعات الأخري‏,‏ فظهور شخص في التليفزيون وفي رقبته رباط عنق ثمنه كذا‏,‏ وفي معصمه ساعة بمئات الآلاف من الدولارات‏,‏ وبدلة بآلاف وحذاء بمئات‏,‏ وسيارة يسرف في ذكر مزاياها لابد ان يكون له تأثيره النفسي لدي المشاهد مهما يكن مستواه الاجتماعي وقدرته المالية‏..‏

هل يمكن الحد من انتشار ثقافة الاستهلاك وغرس ثقافة بديلة‏..‏ ثقافة العمل والاندماج وثقافة الادخار‏,‏ وثقافة الاستهلاك العاقل؟

هنا نصل إلي الصخرة التي تتحطم عليها الآمال‏,‏ فليس في مجتمعنا جهد يبذل من المؤسسات الرسمية للاعلام والثقافة والتعليم أو من مؤسسات المجتمع المدني لنشر الوعي بمخاطر الاستسلام لهذه الغواية‏..‏ غواية الاستهلاك غير الضروري تؤدي إلي فشل التنمية في الدول النامية وتزيد ثراء الدول المتقدمة التي تمتلك الشركات والمؤسسات المتعددة الجنسيات التي تهدف إلي القفز علي حدود الدول وعلي ثروات الشعوب والسيطرة علي المجال الاقتصادي العالمي باسم العولمة وتجميع الثروة في ايدي اقلية تتحكم في الاسواق والعقول والاذواق‏.‏


 




 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف