فيأجواء الاحتفال بمرور مائة عام عليميلاد نجيب محفوظ تعود الينا ذكريالرجل الذييمثل نموذجا للشخصية المصرية ـ العربية.. كانت له رسالة وكان عليوعيبأهميتها وبقدرته عليالقيام بها, وكرس حياته للقيام بها, وفينفس الوقت لم ينس نصيبه من الدنيا.
هو مؤسس الرواية العربية الحديثة دون منازع وهو الذي وصل بها اليالعالمية واستحق أن يكون أول عربي يحصل عليجائزة نوبل, ومن معطفه خرج جيل الروائيين الجدد الذين نهجوا نهجه في تشريح الشخصية المصرية فيتفاعلها وصراعها مع الظروف السياسية والاجتماعية التي أثرت عليها سلبا وإيجابا. وأخذوا عنه الاهتمام بتسجيل تفاصيل الحياة والعلاقات فيالمجتمع, والأسرة, والحارة, وتطورها فيالمراحل التاريخية المتعاقبة.. ففيرواياته تسجيل بالغ الدقة للمجتمع المصريوللمصريين وبخاصة أيام ثورة9191 وما بعدها, وأيام ثورة يوليو بما لها وما عليها وفيكل كتاباته من بداياتها ظل ملتزما بالدفاع عن القيم الوطنية, وعن إيمانه بالحرية والديمقراطية, وبالعدل, والقانون, وبحق الانسان فيأن يرفض الخضوع لمنطق القوة وأن يثور عليالظلم.. ودراسته الأوليللفلسفة فتحت أمامه الطريق ليكون مفكرا مشغولا بقضايا الانسان الكبري: الموت والحياة.. والحرية.. والزمن.. والحب والعداوة.. والقوة والعجز.. ودراسته التاريخ القديم والحديث جعلته مشغولا بالمستقبل, والمستقبل عنده رهن بالعلم والحرية, والايمان عنده عبادة وعمل, والانسان عنده روح وجسد لا ينفصلان ويختل توازنه اذا انحاز اليجانب منهما عليحساب الآخر. وفي كتابية أحلام فترة النقاهة نجده يقدم فيكلمات قليلة تجربة روحية أو تجربة عقلية أو رؤية فلسفية للحياة وكل تجربة منها تدفع القاريء اليالتوقف والتأمل طويلا لأنها تعبر عن خلاصة ما وصل اليه نجيب محفوظ بعد عشرات السنين من القراءة والتأمل والغوص فيأعماق النفس البشرية.
وقليل من النقاد من تنبه اليريادة نجيب محفوظ فيصياغة لغة الرواية العربية الحديثة, تمكن بها من تطويع اللغة ليكون الحوار بين شخصيات فيالأحياء الشعبية باللغة العربية القريبة من العامية بحيث يبدو الحوار واقعيا, ولم يسبقه أحد من الروائيين اليذلك, فيما عدا توفيق الحكيم الذيكان فينفس الوقت تقريبا يحاول الوصول إليما كان يسميه اللغة الثالثة بين الفصحيوالعامية.. ويذكر لنجيب محفوظ أيضا أنه كسر الشكل التقليديللرواية فيبعض أعماله مثل ثرثرة فوق النيل واللص والكلاب, أما مواقفه السياسية فقد قال البعض عنه إنه كان معاديا لثورة يوليو, وقال آخرون إنه يمثل الكاتب( اللامنتمي) الذييفضل الموقف السلبيسياسيا ويكتفيبدس آرائه السياسية عليلسان شخصيات فيرواياته, وقد شرح هو مواقفه السياسية منذ الطفولة وكان سعد زغلول هو الزعيم الذييذكر اسمه باحترام وتقديس, وكان يخرج فيمظاهرات الطلبة المطالبة بجلاء الاستعمار البريطاني, والهتاف بسقوط الموالين للاحتلال, لم يرفض ثورة يوليو مطلقا ولكنه كان ينقد الواقع ويوجه النظر إليسلبيات تسيء اليها, وإنه لم يكتب كلمة ضد الاصلاح الزراعي مثلا أو ضد مكاسب العمال والفلاحين, ولكنه في رواية ميرامار كشف الانتهازية في الاتحاد الاشتراكي.
وفلسفة نجيب محفوظ نجدها عليلسان الشيخ عبد ربه التائه الذييلخص لنا مأساة الانسان بين الحياة والحب والموت, وهو مثلا يقول: لم أجد تجارة هيأربح من بيع الأحلام, وقال: تبدو الحياة سلسلة من الصراعات والدموع والمخاوف ولكن لها سحرا يفتن ويسكر:
وقال: أقرب ما يكون العبد اليربه وهو يمارس حريته بالحق, وسئل الشيخ عبد ربه التائه.. لماذا يغلب عليك التفاؤل, فأجاب: لأننا مازلنا نعجب بالأقوال الجميلة حتيوإن لم نعمل بها.
تذكرت في مناسبة المئوية فكرة طرحها نجيب محفوظ في عمود( وجهة نظر) في الأهرام فيعام1891 عن دور الجامعات فيالقيادة الفكرية للمجتمع وكان هذا الدور ملحوظا فيالثلاثينيات والاربعينيات فكان نشاط طه حسين فيالجامعة جزءا من نشاطه فيالحياة العامة, وكذلك كان الشيخ مصطفيعبد الرازق, ومنصور فهمي, والدكتور عليمشرفة وغيرهم كانوا يحدثون ثورة عامة فيالحياة الفكرية, ولكن تقلص هذا الدور وتراجع دور الجامعة في المجتمع, ولم تعد تقوم بمسئوليتها فيتخريج قادة للرأي والفكر, وتذكرت رأيه فيكيفية تحقيق نهضة حقيقية لبلادنا العربية وملخصه أن وراء كل نهضة مبدأ عاما أو فكرة تستقطب العقول والقلوب وتكتل الناس أو أغلبيتهم حول هدف واحد, فإن لم يتحقق ذلك تفرقت القلوب نحو الاهداف الذاتية, واستفحلت الأنانية والأهواء فينحصر نشاط كل فرد في انجازات شخصية ويفتقد الروح الجماعية فلا تحدث نهضة ولا يتجاوز الفرد ذاته ولا يتجمع الناس حول غاية.. ولايزال نجيب محفوظ يتكلم.. يعلمنا.. ويمتعنا.. ولن نمل من العودة اليه ومصاحبته والاستمتاع بكتاباته الملهمة.