بعد أن استقال من رئاسة الوزارة البريطانية مرغما, تحت ضغط الرأي العام الساخط عليه بسبب مسئوليته عن الجرائم التي ارتكبت في العراق, فإن توني بلير يزداد تمسكا برهانه علي أمريكا, وهو الآن ـ مثل شعراء العرب القدامي يقف علي باب البيت الأبيض ليلقي قصائد المديح لأمريكا.
وجميع رؤسائها وقادتها علي أمل أن يجد هناك الحماية اذا جاءت لحظة الحساب بعد أن ينكشف المستور, وتظهر الحقائق البشعة عن هذه الجرائم, التي تعيد الي الذاكرة جرائم النازية.
وقد كافأته أمريكا علي تبعيته لها بوظيفة ممثل الرباعية الدولية, وهي وظيفة وهمية بلا اختصاصات تمنحه راتبا كبيرا وتسمح له بالبقاء تحت الأضواء علي أمل أن ينسي الشعب البريطاني وشعوب العالم ـ جريمته ويتمكن من تحقيق حلمه في العودة الي الفردوس المفقود الذي خرج منه مطرودا بسبب خطيئته الكبري..
وبلير ـ كما يعلم الجميع ـ طموح, وطموحه بلا حدود, وواثق أكثر من اللازم بنفسه وبقدرته علي التلاعب بعقول الناس, وفي مذكراته يكرر كثيرا عبارات الغزل في مدح أمريكا ورسالتها الإنسانية في نشر المساواة, والحرية, والديمقراطية, وحقوق الإنسان, والعدل, وعظمة دورها في الحضارة الحديثة, وقيادتها الحكيمة للنظام العالمي وهو مؤمن بأن تبعية بريطانيا لأمريكا سيضمن لها نصيبا من الغنائم والنفوذ ويساعد علي تراجع دور المحور الفرنسي الألماني في أوروبا وفي العالم, وهو اليوم يركب حصانين, حصان السياسة, وحصان البيزنس, وقد نشرت صنداي تايمز البريطانية أن زياراته للمنطقة هي أساسا لخدمة مصالح شركته الخاصة(TBA) التي أسسها بعد خروجه من السلطة, وأيضا لخدمة مصالح مجموعة مصارف مورجان ستانلي بعد أن صار ممثلا لها, وهذه المصارف لها مصالح واسعة في المنطقة, وقد علق نائب رئيس مجلس الأعمال البريطاني علي هذه الزيارات التي تتم تحت عنوان السعي لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بقوله: إنها غير لائقة علي الإطلاق ولكن ما هو معلوم في العالم يتم التعتيم عليه في العالم العربي فلا أحد يتحدث عن الصفقات التي تمت علي يد بوش الأب والابن بعد خروجهما من السلطة وعلي يد بلير أيضا!
وبلير له دور رئيسي في صياغة مبدأ الحق في التدخل الإنساني في الشئون الداخلية للدول, الذي يبرر التدخل السياسي والعسكري للدول الكبري لفرض السياسات التي تدعي أنها تحقق الديمقراطية وحقوق الإنسان لشعوب الدول الصغيرة, وقد قوبل هذا المبدأ بالرفض من العقلاء في العالم وحتي في مجلس الوزراء البريطاني واستقال عدد من الوزراء احتجاجا علي سياسة بلير المراوغة وتبعيته العمياء للرئيس بوش وسياساته العدوانية, ومن هؤلاء وزير خارجيته روبن كوك ووزيرة ايرلندا الشمالية مولام مارجوري وتفجرت مظاهرات ومظاهر الغضب في الشارع وفي الصحافة والبرلمان علي سياسة بلير التي جعلت بريطانيا تابعة لأمريكا ومخلب قط لتنفيذ مخططات تخدم استراتيجية اليمين الأمريكي الذي يعتبر اليمين الإسرائيلي امتدادا له في الشرق الأوسط, ولم يتوقف النقد الذي يوجه الي بلير في بريطانيا منذ خروجه من السلطة, بل ازداد في الأيام الأخيرة بعد صدور مذكراته, ومن هذا النقد أن مشاركته في تدمير العراق أعطي إيران الفرصة لتوسيع نفوذها في العراق وفي المنطقة, وبالطبع أعطي لإسرائيل نفس الفرصة, ويرد بلير في مذكراته بأن العراق يحتل موقعا جغرافيا خطيرا له أهمية استراتيجية ولا أحد ـ مثله ـ يقدر أهمية العراق الجيو ـ استراتيجية, وهذا ما يجعله مؤمنا بضرورة وجود بريطانيا مع أمريكا هناك بديلا عن صدام, وبأن إسرائيل سيتحقق لها الأمن عندما يكون العراق بدون صدام ويتم تفكيك قدراته العسكرية والاقتصادية وتتحقق استراتيجية بوش الخاصة بإعادة ترتيب المنطقة..
ولم يكتف بما كتبه في المذكرات ولكنه كتب مقالا لمجلة تايم الأمريكية نشرته علي صفحتين ونصف, ونشرت صورته علي الغلاف وصورة أخري علي صفحة كاملة مع المقال ـ وهذا هو المطلوب! ـ وعنوان المقال نداء العظمة, وهو مستخلص من المذكرات, ويتحدث فيه عن كيف أصبح كلينتون وبوش( علامة في تاريخ أمريكا), وأن أوباما في الطريق ليكون كذلك, ويختم مقاله بقصة صديق له يهودي هاجر والداه من أوروبا الي أمريكا طلبا للأمان, وبعد أن حقق هذا الصديق ثروة كان يشجع أمه علي السفر خارج أمريكا ولكنها كانت ترفض بإصرار, وعندما ماتت فتحوا خزينتها التي تخبئها فوجدوا داخلها صندوقا ظنوا أنها تحفظ فيه مجوهرات ثمينة ولكنهم وجدوا مظروفا بداخله وثيقة حصولها علي الجنسية الأمريكية!
مذكرات بلير تدل علي أن قدرته علي النفاق لا تنتهي وأن ميكيافيللي لم يمت, وأن بلير سيظل واقفا علي باب البيت الأبيض ينتظر ولن يفقد الأمل أبدا!