مع الشيخ الشعراوى (2)
فى السبعينات كنت مندوباً بالأهرام فى الهيئات القضائية (وزارة العدل، والنيابة العامة، ومجلس الدولة، والنيابة الإدارية، وهيئة قضايا الدولة)، ثم أضيفت إلىّ وزارة الأوقاف فكانت هذه فرصة لاقترب جداً والتقى يومياً بوزراء الأوقاف الدكتور عبد العزيز كامل والدكتور عبد المنعم النمر والشيخ محمد حســــــين الذهبــــــى والشيخ الشعراوى والدكتور عبد الرحمن بيصار.
وكنت عندما أذهب إلى الشيخ الشعراوى وهــــــــــــو وزيـــــــر الأوقاف يستقبلنى على الفور، ويطول بنا الحديث فى مسائل فقهية وفى معانى القرآن، حتى أنسى أننى جئت بحثاً عن خبر للنشر، فلم أحصل منه على أخبار كثيرة إلا بعد أن فجر قضية الفساد فى هيئة الأوقاف التى شدت الرأى العام وكشفت بذور وجذور الفساد ودفع الشيخ ثمن شجاعته فى إعلان آرائه بصراحة فى مجلس الشعب وخرج من الوزارة.
وفى بعض الأحيان حين كان الوقت يسرقنا والشيخ يفيض بعلمه أنبهه إلى أن عدداً من أعضاء مجلس الشعب والشخصيات تنتظر عند سكرتيره لمقابلته وأستعد للقيام فيقول لى: أجلس.. أنت تسألنى فيما أملك، وهم يسألوننى فيما لا أملك، يقصد أنهم يأتون دائماً بطلبات لا تنتهى لتعيين موظفين لا حاجة للوزارة بهم، أو ضم مساجد وزوايا صغيرة إلى وزارة الأوقاف وهو ملزم بالخطة والميزانية، أو صرف إعانات مالية لمن لا يستحقونها لمجرد تقديم خدمات للأقارب والمعارف ولأبناء الدائرة تشفع لهم فى الانتخابات (واللى ببلاش كتر منه).. وفى حديث معه للأهرام قال: إننى أراعى وجه الله ولا أجعل فى بالى أحداً لأنى علمت من تجاربى أن أى موضوع يؤدى إلى فشل الإنسان والجماعة هو الموضوع الذى يدخل فيه هوى الشخص أو هوى الجماعة، وكل موضوع يصدر عن هوى الحق ومراده لا يمكن ابداً أن يصاب بالهزيمة أو الفشل، وحين يتخلى الناس عن مراعاة الله فى أعمالهم تتخلى يد الله عنهم.
وزير رغم أنفه
ومع أنه كان راغباً فى البعد عن السياسة إلا أنه عين وزيراً للأوقاف عام 1976 وهو فى السعودية لأداء فريضة الحج، ولقيته مصادفة بعد إذاعة الخبر فهنأته بالمنصب، لكنه بدا غير سعيد، وقال لى: هى محنة أرجو الله أن ينجنى منها، وامتحان أدعو الله أن اجتازه وهو راض عنى، وقال لمن هنأه بالمنصب: الحمد الله الذى لا يحمد على مكروه سواه، لقد عزفت عن الدنيا فى الشباب وأنا محتاج، فسعت إلى فى الكبر وأنا عازف عنها، وكان فعلاً قد وصل إلى مرحلة زهد فى الوظائف والمناصب بما فى ذلك منصب شيخ الأزهر، وأراد أن يعيش هادئاً مع القرآن.. وكان يقضى ساعات طويلة ممسكاً بالمصحف يقرأ ويتأمل كل كلمة وكل آية.. وسألته يوما: ماذا تقرأ هذه الأيام يا مولانا، فأجابنى: القرآن، فقلت مندهشا: معقول.. بعد عشرات السنين فى حفظ القرآن وشرحه وتفسيره؟ قال: والله يا أخى إننى كلما قرأت القرآن وجدت فيه من معانى وإشارات جديدة لم أدركها من قبل.. إن عطاء القرآن متجدد ودائم لا يتوقف لمن يجيد قراءته.. ويذكر للشيخ وهو وزير أنه هو الذى أصدر قرار إنشاء أول بنك إسلامى (بنك فيصل الإسلامى) بعد أن اعتذر وزير الاقتصاد - د. حامد السايح - عن إصدار هذا القرار وقال هذه تجربة جديدة على الاقتصاد المصرى وأنا لا أعرفها، بينما كان الشيخ يرى أن البنوك الإسلامية يمكن أن تكون أكثر مقدرة على تنمية الاقتصاد وفتح باب فرص العمل للشباب بعيداً عن وظائف الحكومة وتعقيدات البنوك التجارية.. وهو الذى بدأ فى إصلاح أحوال أئمة المساجد وتدريبهم وتعيين الشيوخ المعممين وكلاء وزارة وكانت هذه الوظائف مقصورة على (الأفندية).. وهو الذى توسع فى منح القرض الحسن والمساعدات للأرامل واليتامى والمرضى والفقراء، وزادت فى عهده الموارد من التبرعات وأموال الزكاة من القادرين نتيجة لثقتهم فى نظافة يد الشيخ وحسن تصرفه فى هذه الأموال فى مصارفها الشرعية. وبعد خروجه من الوزارة سئل عن هذه التجربة فقال: من يدرى لو لم أمر بها لعلى كنت أتمناها ولكنى والحمد لله أحب لو لم تكن فى حياتى هذه التجربة.
استجواب عن الفساد
سجل لنا الزميل محمد المصرى فى كتابه الوثائقى المهم «الشعراوى تحت قبة البرلمان» قصة الزوبعة التى أثيرت فى مجلس الشعب وفى البلد بسبب الاستجواب الذى قدمه النائب عادل عيد لوزير الأوقاف عن الفساد فى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الذى يتبع وزير الأوقاف، وقال فيه عادل عيد: إن محمد توفيق عويضة السكرتير العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية عاث فى الوزارة فساداً مستغلاً التفويض الذى منحه له وزير الأوقاف السابق، بينما أعلن الشيخ الشعراوى أمام المجلس فى بداية عهده بالوزارة أنه لا يعلم شيئاً عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وأن الأمين العام لهذا المجلس لا يهتم بالرد على مكاتبات الوزارة، وطالب الوزير فى بيانه أن يتبع هذا المجلس الأعلى للوزارة فعلاً وليس شكلاً كما هو منصوص عليه فى قرار إنشائه، أو أن يفصل هذا المجلس عن الوزارة ويتبع أية جهة أخرى، وتساءل عادل عيد: كيف يكون هذا هو رأى الوزير وهو الرئيس المباشر للمجلس ولسكرتيره العام ومن حقه أن يفصل السكرتير العام وأن يحاسبه حتى تبرأ ذمته أمام الله والناس، وقال عادل عيد: لقد قصر الوزير الشيخ الشعراوى فى استخدام حقوقه الدستورية والقانونية فى مواجهة موظف تابع له واكتفى بكتابة شكوى لرئيس الوزراء وبالشكوى أمام مجلس الشعب واتهم عادل عيد السكرتير العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية باغتصاب ثلاثة أفدنة لشخصه كما أنه اغتصب 12 فداناً أخرى من أوقاف المسلمين، وأنه حقق ثروة غير مشروعة لنفسه ولأسرته، وكانت المفاجأة حين وقف الشيخ الشعراوى وهو الوزير الذى وجهت إليه المسئولية عن هذه المخالفات فقال: إننى ما جئت إلى هنا لأرد على الاستجواب، إنما جئت لأردد الاستجواب، والجهاز المركزى للمحاسبات سجل المخالفات التى ارتكبها السكرتير العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية الذى أوهم الناس أنه من مراكز القوى، وأننى أود لو استجوب مجلس الشعب، فجهاز المحاسبات تابع لمجلس الشعب فماذا فعلتم فى تقرير الجهاز؟ وقال الشيخ فى تفسير سكوته: ما كان لى أن أتصرف أو أقف حتى أتحسس المجالات التى أتبعها وبما كان فى أمر السياسات العليا، وما أكثر ما تتطلبه السياسات العليا الآن مما لا نعرفه ومن المصلحة ألا نعرف، وما يدرينا أنه لهم فى تحولاتهم أشياء لا تدخل فى دائرة السكرتير العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية؟ ولقد ألغيت التفويض بسلطات الوزير الذى كان ممنوحا له دون استشارة أحد، ثم قال لقد وجدنا الملفات قد اختقت.. وللحق كنت ومن معى نعمل على جمع المخالفات بنصف قلب لأنى خشيت أن يكون مسنوداً، والذين كانوا يعملون معى كانوا يعملون معى بربع قلوبهم، وقالوا لى إن الهمس يدور بأن عويضة أبقى منك فى المنصب، وبعد أن انتهى الشيخ من الرد قام عادل عيد ليقول: أنا أشكر الوزير وأقدره، ووافق المجلس على الخطوات التى أعلنها الوزير للمحاسبة على المخالفات، لكن الشيخ الشعراوى قال فى حديثه للمجلس عبارة أثارت حوله كثيرا من الغبار حين قال وهو يشير إلى قيام الرئيس السادات بالقضاء على مراكز القوى:(والذى نفسى بيده لو كان لى من الأمر شىء لحكمت للرجل الذى رفعنا تلك الرفعة وانتشلنا فيه إلى القمة ألا يُسأل عما يفعل) وصفق الأعضاء بينما وقف الشيخ عاشور عضو المجلس وقال للشيخ الشعراوى:(اتق الله يا رجل.. مفيش حد فوق المساءلة.. لترع الله) ورد عليه الشيخ الشعراوى: اجلس.. أنا أعرف بالله منك وكررها.. أنا أعرف بالله منك.. وفى اليوم التالى أحال رئيس المجلس - المهندس سيد مرعى - الشيخ عاشور إلى اللجنة التشريعية ووافق الأعضاء لمحاسبته على قوله:(ده مش مجلس الشعب.. ده مسرح مجلس الشعب) وطلب سيد مرعى إخراج الشيخ عاشور من الجلسة فخرج وهو يهتف (يسقط أنور السادات) وكررها، وفى تعليق سيد مرعى وصف الشيخ عاشور بأنه «عضو شاذ لا يجوز أبداً أن ينتمى إلى المؤسسة الدستورية.. ورفعت الجلسة ثم عادت للانعقاد لمناقشة تقرير اللجنة الدستورية عن الشيخ عاشور واقتراحها إسقاط عضويته فى المجلس، ووافق المجلس على ذلك فى اليوم التالى، ويذكرنا الأستاذ محمد المصرى بأن النص فى الدستور يحظر مؤاخذة عضو المجلس عما يبديه من أفكار وآراء فى المجلس ولجانه. وفى هذه الجلسة وقف الشيخ الشعراوى مرة أخرى لتوضيح موقفه فقال إن الرئيس السادات نأتمنه على ما يتخذه من قرارات لأنه أثبت أنه يريد أن يصحح أوضاعاً فاسدة، فإذا كان قد أعطى قراراً لسفر إنسان - يقصد توفيق عويضة - دون أن يرجع إلىّ فإننى أقدر ظروف سيادته فيما يريد أن يعمله ومما يجب ألا يعمله مثلى.. وعن تفسيره لعباراته (السادات لا يُسأل عما يفعل) قال الشيخ إن مثل هذا الرجل يجب ألا أسأله عما يفعل وقد قصدت أنه يجب ألا يُسأل عما يفعل فى الأمور التى يرى فيها مصلحة ويجب ألا يعلنها للناس لأن الإعلان عنها أو معرفة أسبابها قد يفسد الهدف منها.