دروس من طه حسين

قصة حياة طه حسين مليئة بالدروس الملهمة، فيها نموذج لقدرة الإنسان على تحدى العقبات والتغلب على الصعاب، وفيها أيضا القدوة التى تعلم الشباب أن الإنسان يمكن أن يحقق المستحيل بالإرادة القوية، والوعى، والإصرار على بلوغ الهدف، والمثابرة على العمل، وتحمل المشاق، وعدم الاستسلام لليأس تحت الضغوط مهما بلغت قوتها.
و كان من الممكن أن تقدم وزارة التربية والتعليم «ملحمة» طه حسين لكى تبعث فى الشباب الحماسة والأمل، وكانت تفعل ذلك. ولكن عندما ساد الجهل والظلام هذه الوزارة لم تعرف قدر طه حسين وقيمته ومكانته، فاختفى من مناهج الدراسة وكأنها أرادت ألا يتأثر الشباب بكفاحه.. وبفكره الذى يضئ العقول ويرقى بالمشاعر، وفضلت الوزارة ـ فى الفترة المظلمة ـ إلغاء كتاب «الأيام» وسيرة طه حسين لكيلا يتأثروا بقصة هذا الفقير الأعمى الذى أرسله والده وهو فى الثالثة عشرة من عمره ليكون من المجاورين فى الأزهر على أمل أن يصير شيخا يجلس إلى عمود من أعمدة الأزهر ليشرح للتلاميذ كتابا من الكتب القديمة أو أن يكون ـ إذا لم يوفق ـ مقرئا للقرآن فى المآتم والبيوت، وكان يقضى أيامه فى ركن من البيت وينام على حصيرة عليها لحاف، ويعايش الجهل والخرافات مما أفقده نور عينيه وكتب عليه أن يعيش فى الظلام وأن يتأثر بخرافة السحر الذى يحول النحاس إلى ذهب ويجد من يعلمه أدعية ليظهر له خادم الجن ينفذ له أوامره، وبعد أن حفظ القرآن كان والده يطلب منه أن يقرأ له «عِّدية يس» لقضاء حوائجه.. وفى سنوات الأزهر كان يعيش مع الأزهريين على الفول والمخلل والعسل الأسود وأرغفة «الجرابة» من الأزهر.
***
هذا الطفل البائس أراد أن يتحدى الفقر والعجز، كان فى سنوات الأزهر نحيفا شاحب اللون مهمل الزى فى عباءته القذرة وطاقيته التى تحول لونها إلى سواد وعلى ملابسه آثار الطعام الذى يسقط عليها على الرغم منه.. وهو على هذا الحال قرر أن تصبح له مكانة فى مصر مثل مكانة فولتير فى فرنسا كما قال له عبدالعزيز جاويش حين ذهب إليه بمقال لينشره فى صحيفته.. على الرغم من عوامل الإحباط. فكان يكتب المقالات وتنشرها الصحف، وسعى إلى الالتحاق بالجامعة التى أنشئت عام 1908 ضمن أول دفعة وجميع بين الدراسة فى الأزهر نهارا وفى الجامعة مساء حتى تخرج وكان ترتيبة الأول، وحين أعلنت الجامعة عن بعثة لدراسة التاريخ فى فرنسا للحصول على الدكتوراة قرر أن تكون هذه البعثة له، وحين كان إخوته يضحكون من طموحه كان يقول لهم إنه سيذهب إلى أوروبا ويعود منها وقد اختار لنفسه زوجة أوروبية متعلمة راقية، ويكرر لهن: «إضحكن اليوم وسترين غدا».
***
لم يكن حلمه من أحلام اليقظة ولكنه كان الحلم الذى يصحبه الإصرار وتحمل المشاق، فقد تقدم بطلب إلى رئيس الجامعة (الأمير أحمد فؤاد) قال فيه إنه مستحق لهذه البعثة على الرغم من عدم توافر شرط الحصول على شهادة الثانوية، كما أنه مكفوف البصر ويحتاج إلى مرافق يقوده، ويطلب التجاوز عن هذين الشرطين ما دام قد أدى امتحانات الجامعة وحصل على الدرجات العظمى فى جميع العلوم.. لكن مجلس الجامعة قرر رفض الطلب لأنه لايحمل شهادة الثانوية، وكان غيره سوف يستسلم لليأس ويكتفى بأن يندب حظه، لكنه بروحه التى لاتعرف اليأس عاد وكتب التماسا لإعادة النظر فى قرار الرفض لأنه لم يحصل على الثانوية ولأنه كفيف البصر وقال فىالالتماس: إذا كانت الطبيعة قد حالت بينى وبين كثير من نعم الحياة فما ينبغى أن تكون الجامعة عونا للطبيعة على حرمانه من الانتفاع بالعلم والنفع به، وهو فى ذلك أقدر ما يكون، وإضاف ـ فى إصرارـ إذا كان الرفض لاحتياجه إلى مرافق يكلف الجامعة تكلفة إضافية فإنه لايطلب إلا ماهو مقرر لطالب البعثة ويتحمل هو ما يزيد على ذلك من تكلفة.
ورفض مجلس الجامعة الالتماس وجاء فى أسباب الرفض أنه لا يجيد اللغة الفرنسية، وأراد المجلس أن يهوِّن هذا الرفض فجعله فى صيغة التأجيل إلى أن يحسن اللغة الفرنسية، وكان المجلس مطمئنا إلى أن هذا الطالب الأزهرى الفقير الكفيف لن يتمكن من إجادة اللغة الفرنسية.
لكن طه حسين الذى لايعرف المستحيل تفرغ عدة أشهر لدراسة اللغة الفرنسية وأصبح قادرًا على الفهم والتفاهم بها فكتب إلى مجلس الجامعة للمرة الثالثة يطلب أن ينفذ الجلس وعده ويوافق على منحه هذه البعثة بعد أن وصل فى دراسة اللغة الفرنسية إلى درجة لابأس بها.. وجاء قرار المجلس بالتأجيل إلى أن يحصل على الدكتوراه التى سجلها وبنوع مذهل من التحدى أتم رسالته للدكتوراه عن تاريخ أبى العلاء المعرى وحصل على الدكتوراه ونجح بتفوق فى مادتين إضافيتين (الجغرافيا عند العرب والروح الدينية عند الخوارج) وبعد أيام استقبله الخديو كأول دارس فى الجامعة يحصل على الدكتوراة، وهكذا ارتقى الشاب الضرير، الفقير، بحيث يلقى صاحب العرش.. وكتب إلى مجلس الجامعة للمرة الرابعة ـ يطالبه بتنفيذ وعده، ولم يكن أمام المجلس إلا أن يوافق فقرر أن يكون سفره إلى فرنسا فى الأسبوع الأول من شهر أغسطس 1914.
***
وبعد أن كان والده ينتظر أن يكون أبنه قارئا للقرآن فى المآتم والبيوت أصبح يتحدث للناس قائلاً: (لله فى خلقه شئون. هذا أضعف أبنائى وأخفهم حملا علِّى أتيح له مالم يتح لإخوته المبصرين الأقوياء الذين كلفونى مالا أطيق، ولم تتحدث الصحف عن واحد منهم كما تتحدث عنه، ولم يقابل الخديو واحدا منهم، ولم يخطر لى ولا لأحد أنه قد يسافر إلى أوربا كما يسافر أبناء الأغنياء، أما أمه فكانت تخفى دموعها مشفقة عليه من الغربة وهو ضرير، وأما هو فكان قد حقق انتصاره وغير مجرى حياته. ليكون الرجل الذى عاش فى الظلام هو الذى ينير عقول المصريين، ويدفع أبناء بلده إلى طريق العلم والنور حين أصبح وزيرًا للتعليم فجعل التعليم مجانيًا، وفتح الباب واسعًا لأبناء الفقراء ليرتقوا بالعلم كما ارتقى، ولولا قراره لما ظهر فى مصر معظم الحكام والوزراء والكتاب وأبناء الطبقة الوسطى الذين يديرون الأمور فى مصر.. لكن وزارة التعليم تجهل ذلك لتقول للعالم إن الرجل الذى يقدِّره العالم لا يستحق تقديرًا.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف